هذه الثنائية التي ترتبط ارتباطا متشابكا ببعضه ويجري النظر إليها من أكثر من زاوية تحليل ورؤية منهجية، غير اننا لن ذهب في بسطة نظرية تدخل القارئ في احتدام معرفي ليس هنا مجاله. نريد تفحص العلاقة التي تنشأ داخل اللغة السردية وهي تنتج نفسها حين تنتج عالمها السردي. سنكون إذن بمعزل عن التصورات السيميولوجية إلا بما نخفف من غلواء المفهوم الذي نريد تفحصه من خلال متن قصصي يحتفي بهذه الظاهرة.
وأعني سردية حنون مجيد التي لاحظناها في مجمل ادائه وسنلتزم بمتنه القصصي الأخير «مسدس صغير» للتدليل والإشارة على أننا إذ نرقب هذه الظاهرة علينا بدءا أن نلتفت إلى «اللغة السردية» بوصفها كيانا لا ينشغل بذاته!، إنما يمتلك الحرفية والموضوعية التي تمكنه من خلق عالم يوازي العالم الخارجي ويعمل على دحض مسلماته وتفكيك أنظمته ليعيد تشكيلها برؤية هي فنية بالتوصيف العام.
ما يعني أن تنشغل اللغة السردية بانتاج انظمة وسياقات تتضاد لكنها لا تتقاطع مع اللغة الشعرية . فثمة اشتباك اكيد بينهما. هنا تظهر لنا ثنائية «لغة الصورة وصورة
اللغة».
قد يكون أمر شرح العلاقة بين هاتين الثنائيتين معقدا جدا في هذه المساحة على الاقل، لكن من المؤكد أن فهمنا ينطلق من كون الاثنين «نظاما علاماتيا» كما يشير المختصون؛ ولذا فثمة علاقة تركيبية تحكم الاثنين وفقا لبارت. وهذه العلاقة التركيبية يمكن تفحصها الان من وجهة نظر مختلفة عن الطرح السيميائي أعني تحديدا.
ثمة لغة تنتج الصورة الذهنية المتخيلة وثمة صورة متخيلة تنتج اللغة. واذا كان الامر الاول متداولا معروفا فإن الثاني بحاجة الى التعرف. نعني به أن القدرة السردية تلاحق الواقع لتنشئه داخلها ومن هنا يصبح أمر نقل صور الواقع بدقة وحرفية عالية وكأنما الامر يلزم القارئ أن يتحسس بدقة كل مفردات ذلك الواقع حركاته
وسكونه.
تكون الصورة السردية متعاقبة زمنيا ومكانيا ايضا وهو ما ينتج ضرورة أن الصورة التي يراها «الراوي» هنا ينقلها بأمانة من دون كبير تصرف يمكن أن تتحكم فيه مخيلته. بناءً على هذا ستكون اللغة أقرب إلى الساردة والشارحة لهذا النظام من العلامات الذي يتواشج مع الصورة.
ثمة علاقة تركيبية بين اللغة والصورة كما يشير بارت. وحين نذهب معه هنا يمكن الاستنتاج أن الصورة التي تنشئها اللغة ستعيد تشكيل لغة أخرى بطريقة مختلفة. لغة لا يمكن أبدا التقليل من سلطتها ودورها الاديولوجي.
إنها تعود محملة بطاقة هائلة من العلامات المؤدلجة التي تنفذ إلى مخيلة القارئ. يحصل هنا أن الصورة تدرك أكثر مما تدل وأن الواقع يثبت ولا يمثل وفقا لبارت، لان التمثل استحضار رمزي للوقائع وفقا
لبياجيه.
يمكن أن نرصد أكثر من ظهور لصورة اللغة تتعلق جميعها بقدرة «الراوي» على الرصد والتتبع، وتختلف من حيث علاقته بالشخصية وطبيعة إدارة دفة السرد وسنقف على مظهرين أساسين. الاول حين يستحوذ الراوي على رؤية الشخصية فينتج لنا صورة كاملة عن كل حركة وفعل حركي أو ذهني تقوم
به.
في قصة «جندي من تلك الحرب» يقول: «بل إن متتبع سعيه سيتحقق له أن هذا الجندي الذي يواصل زحفه الحثيث رجل يقاوم بإصرار عنيد كل ما يتهدده من صور الموت».
نلحظ في هذه الجملة إشارة واضحة للقارئ أن ثمة تتبعا سينقاد اليه القارئ وأن ثمة لغة تتقصى جزئيات الصورة جميعها حتى في الانتقالات الزمنية التي يحدثها السرد. تبدو اللغة هنا شريطا متواصلا من دون قطع؛ لذلك لا يضطر القارئ الى مخيلة أبعد مما تكسبه اللغة التي تحتل محل المخيلة فتعكس الصورة. «الظلال هنا وهنا تنشأ شحيحة لاوجود لها إلا مع شجيرة شوكية قميئة او نبتة برية تطاولت قليلا ثم توقفت.. وهذا الشريط المتداعي سريعا من صور اصدقائه الذين بعمره كانوا ...».
ونلحظ بدءا «الشريط المتداعي الذي يؤذن بالانتقال الى زمن ماضٍ يتشكل ضمن صورة
الحاضر. أما المظهر الآخر فيكون ظهوره بما يمكن أن نسميه «إعادة عرض اللقطة».
فالراوي يتعرض لصورة إجمالية ثم يحيل الكلام إلى الشخصية لتعرض الصورة نفسها أو انه يتولى عرضها مرة أخرى كما في «فعل طروب» «لقد تجاوزت.. النساء من معارفها اللواتي رغبن في استيقافها... واختارت لفرارها طريقا فرعية... في المرة المقبلة والى اللقاء... بل انها تحاشت رغبة امرأة حاذتها... لا يا أخيتي سأمشي
سريعا».
وهكذا يتم التركيز على «مشهد الاسراع» وغيره أيضا. يبدو لي أن هذا النمط يتوخى فيه التركيز على صورة ثابتة لا تغادر أي مشهد لإبقاء فعل التأثير قائما. لا شك أن الامر بحاجة إلى متابعة أكثر استقصاء وأعمق تحليلا. وهو ما نأمله لاحقا.