الموسيقى وحميمية الحياة

الصفحة الاخيرة 2021/02/24
...

زيد الحلي
مررتُ قبل مدة من امام محال "جقماقجي" الشهيرة في عالم الموسيقى والغناء، في بداية شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي، فوجدتها تحولت الى محال لبيع الملابس، فصدمت وطفرت مني دمعة، لم استطع منعها، لأن الدموع هي مطافئ الحزن الكبير، وهي وطن الأرواح 
المرهقة !
لقد لاحت لي صورة البهاء والادراك العراقي المبكر للثقافة الموسيقية، ففي وقت كان فيه العالم، يلملم جراح الحرب العالمية الاولى، اذ لم تمضِ على انتهائها سوى ايام (انتهت في 11 تشرين الثاني 1918) حتى بادر مواطن عراقي من الموصل الى سلطات الاحتلال البريطاني التي وصلت للتو الى بغداد قادمة من البصرة، بطلب تأسيس مكتبة موسيقية وغنائية، فحصل عليها بسرعة قياسية، مكتبة فنية في ظرف دولي عصيب، ثم حظي باستجابة مجتمعية ومباركة من المواطنين، بما يؤكد أن العراقيين صنو الفرح، وصناع البهجة، وادركوا بوجدانهم النقي أن صوت الموسيقى يتجاوز ضجيج الأفكار، وهو أقرب شيء بعد الصمت، يمكن التعبير به عما لا يمكن وصفه، فالموسيقى تجعل الصحراء اصغر وتجعل القمر
أكبر!.
الشركة الوليدة استمرت في عطائها الفني لاكثر من ثمانية عقود، تنتج الاسطوانات وتشتهر عربيا وعالميا، وبات اسمها دلالة على رقي الذهنية العراقية وسعيها الى التجديد، وينسب لها الفضل في اكتشاف اصوات عشرات من المطربين والموسيقيين العراقيين والعرب، وحفظ اعمالهم في اسطوانات خاصة، بعد تسجيلها في استوديو ذي تقنية تلائم تلك السنين الخوالي في بغداد، وكان من تلك الاصوات: صديقة الملاية، حضيري أبو عزيز، ناظم الغزالي، زهور حسين، سليمة مراد، ناصر حكيم، القبانجي، انصاف منير، حسن خيوكة، وغيرهم المئات . 
فهل من المنطقي أن تنتهي هذه الشركة الرائدة، الى زوال مؤلم، بعد أن توارثها الابناء عن الآباء والاجداد، بأسى اقول : انتهت "جقماقجي" .. تاريخ العراق الغنائي والموسيقي، من دون أن ترمش عين احد من المعنيين  بالفن في وطني. 
ضاعت ثروة لا تقدر بثمن تضم آلافاً من الاغاني والموسيقى في تسجيلاتها الاصلية، ولم يتذكر اي من المعنيين مؤسسها فتحي جقماقجي وولديه محمد عارف وعبد الله والحفيد نجم جقماقجي.