حكاية في مقهى

ثقافة 2021/03/01
...

 حبيب السامر
دأب المثقفون في مدينة البصرة على تحولات المقاهي 
التي يختارونها في لقاءاتهم القصيرة والدائمة وقت راحتهم، حتى أنها تعددت في حياتهم وروادها، آخر هذه 
المقاهي اختار الأدباء مكاناً في قلب 
البصرة، كما يُطلق عليه مجازا (مقهى الأدباء).
بين الفينة والأخرى، نذهب إليه، ننصت إلى من هم أكثر خبرة ودراية بالأدب 
والحياة، بانتباه شديد ورغبة في 
كسب المعرفة من الكتب التي يتداولونها في أحاديثهم المتشعبة، والتي تتصفح 
الكتاب بمختصر مفيد، يوضح حركة أبطاله وأزمة شخوصه، وكيف يتناول الكاتب الثيمة بعناية فائقة واستخدام متقن في اللغة؟. 
هكذا تسير الأمور عادة، وهم 
يشدون انتباهنا إليهم بوقار تام.. نصغي إليهم في جلساتهم التي تطول احيانا، نحاول أن نفك شفرات كلامهم الملغز في بعض 
الأحايين، وما أن يفرغ أحدهم حتى 
ندنو ونطلب باحترام كبير منه توضيحا لبعض الأمور يبدأ شرحها بهدوء، 
يحاول أن يضيف متعة لحديثه، مستشهداً بأقوال الكتّاب والأدباء الكبار 
والفلاسفة العظماء، مما يشدّ من رغبتنا في فهم العديد من تحولات النص، بطريقة مبسطة تُحفزُ ذائقتنا في تلقي الفعل الثقافي.
حقا، ننظر الى العالم المتسع، من خلالهم برؤيتهم الباصرة، والكاشفة للعلائق الحية التي تنشئ نماذج ومبادرات تقرّب 
المحرك الإبداعي من تصوراتنا، لما 
يمثلونه من دالة كبيرة علينا نحن الطموحين الى فهم الحياة بصيغة أفضل، 
نطرح أفكارنا بخجل جم، نقترب منهم 
من دون ان نخدش جلستهم، أو أن نتسبب في كسر أفق حديثهم الذي يمتد لوقت، نرتشف فيه أكثر من شاي في جلسة واحدة.
وقتها، اقترب مني صديق حميم، يثق بي جدا، ويحترم صراحتي، أخرج من محفظته ورقة مخططة وقال لي: أريد رأيك في هذه القصيدة، ابتسمت في وجهه وبادلني ايضا بابتسامة ودودة، بدأت أقرأ بعناية وهدوء كل حروفها.. أعدت القراءة ثانية وهو يراقب حركة عيوني في محجريهما، رفعت عيوني قليلا وقلت له: جميلة.. أحسست بعدم رضاه، تداركت الأمر بفكرة أخرى.. اقترحت عليه أن يجعلها بخط أفقي لتتحول الى نص قصصي قصير، لأني بكل صراحة لم أجد فيها دهشة النص الشعري، وكسر أفق التوقع، ثم أنه ومنذ زمن يكتب، لكنه ظل في خط واحد وكأنه يكتب قصيدة طويلة مجزأة بعنوانات مختلفة، تركنا بعضنا فترة ليست بالقصيرة، حين عدنا مرة أخرى، بعد انقطاع طويل الى المقهى، أحسست بعدم رضاه وابتعاده عني قليلا، دنوت منه، حاولت أن أوضح الأمر، وهي باختصار وجهة نظري التي تحتمل الخطأ والصواب، ثم أن الاختلاف في الشعر لا يفسد للمحبة قضية، ضحكنا معاً، وهو يحاول أن يخرج من محفظته قصيدة أخرى، قلت له: دعنا الآن نمضي جلسة راحة لنا، بعد عناء الدوام الطويل ومشقة الحياة.. لكنه أصر على ذلك، استقبلت النص بعناية وبدأت أقرأ فيه، وابتسم، ما أن انتهيت من النص ربتُّ على كتفه وقلت له: هذا تطور واضح في ثيمة النص وبنائه وشكله، أخذ رشفة طويلة من شاي ساخن على طاولته الصغيرة وقال: لم أنم ليلتها حين طرحت أفكارك حول ما كتبت، لقد أفادتني وخزتك الأولى، وظلت ترن في رأسي، وفي كل 
مرة أجيء الى المقهى، لم أجدك، واليوم التقينا.
نعم، النص ظاهرة متخيلة، قد 
أجد ما يسرني في قراءتي له كــ (متلقٍ)، وهناك من يختلف معك في وجهة 
النظر فهو لا يقصدك، القراءات المتعددة 
تمنح النص أكثر من وجه قابل للتأويل 
من خلال التراكيب الجميلة والحالة التصويرية التي تعمل على تفعيل حركة الحواس لفك أنماط القراءة وتداخلها لجعلها مرنة وشحن روح التلقي بالمقاربات 
العميقة.