(النضج المتأخر) لميلوش.. باب الإشراق الروحي المفتوح للجميع

ثقافة 2021/03/02
...

 محمد تركي النصار

 
 
كتب تشيسلاف ميلوش قصيدة (النضج المتأخر) عند بلوغه التسعين من عمره، وهي القصيدة الأخيرة في أعماله الكاملة، ويرينا الشاعر المعمر فيها (وضوح الفجر وصفاءه).
ميلوش الحاصل على جائزة نوبل للاداب عام 1980 والمتوفى في عام 2004 يعد واحدا من أهم الرموز الأدبية في عصرنا، وقد عاش خلال أسوأ الفترات وأكثرها وحشية وفظاعة في التاريخ.
تحمل الشاعر البولندي المولود في ليتوانيا عام 1911 كوارث الاجتياح النازي لبلده ثم عانى بعد ذلك من اضطهاد الحكم الشيوعي الذي حكم البلاد لعقود من الزمان.
وبسبب تلك المعاناة اضطر لاختيار المنفى حيث حصل على الإقامة والسكن في الولايات المتحدة.
ومن الناحيتين السياسية والاجتماعية ظل ميلوش مشغولا بمشاكل العالم وهمومه لكنه أيضا بقي ثابتا على تمسكه بالبعد المقدس أو مايمكن تسميته بإشراق الرؤية. ميلوش الكاثوليكي بالمعنيين الرسمي من خلال تمسكه بالقيم الدينية، وكذلك بالمفهوم الأوسع من حيث شمول الرؤية والتجلي الروحي بقي أيضا حريصا على قيم المدنية وملهما للعديد من الشعراء.
وبعيدا عن المجد والشهرةاستمرفي كتابة الشعر في سنوات شيخوخته حريصا على على تطوير فنه وانتاج قصائد تضفي صفاء على رؤيته وتقدم عبارات  تغذي أرواح قرائه باستلهامات التجلي.
(النضج المتأخر) لميلوش قصيدة تعبر عن هذا التجلي: (دخلت الى صفاء الفجر) ليست مجرد وصف للشاعر نفسه، لكنها دعوة للقارئ للدخول من الباب الذي أحس الشاعر انه انفتح في داخله: 
على مشارف سنواتي التسعين
شعرتُ أن بابا في داخلي ينفتح فدخلت
مغمورا بصفاء الفجر
ويلاحظ من بناء الأبيات الاولى أن تشطير البيت الشعري مرتبط بالدلالة والمعنى اذ لم يكتب الشاعر (شعرت، دخلت) منفصلتين بل جمع بين الفعلين في بيت واحد (شعرت ودخلت) وهنا يتوقف البيت لنتوقف نحن أيضا معتبرين أنه انتهى وعندما ندخل نغمر بالبيت الذي يليه ويغدو كما لو أن الوجود كله يصبح هو (وضوح الفجر).
ثم تتوالى أبيات القصيدة لتصف التاريخ الشخصي وعبء هوية الماضي والأفعال التي تعطيها حقيقة ما، وكل هذا يغسل بمداد متدفق من الضوء وتبدو الراحلة كما لو أنها أطياف كئيبة كلما نظرت للماضي اصطادها شعاع الفجر:
كانت حيواتي السابقة ترحل واحدة إثر أخرى مثل سفن محملة بالأحزان.
والحيوات السابقة التي تشرع بالرحيل هي ليست حيوات متخيلة لكنها الطبقات المتراكمة لمختلف أنواع الحياة التي نعيشها ملفوفة واحدة فوق الأخرىومكتظة في حياة واحدة. وفي هذه القصيدة يتم فك الاشتباك بينها وتترك لكي تغادر مثل سفن محملة بأحزانها، وهذا الفتح أو الإخلاء ليسا تهيئة للعدم والموت كما يحدث عند شاعر آخر مثل فيليب لاركن مثلا، لكنهما تهيئة للروح والعقل للبدء بمشروع جديد كما كل شيء خصص (للفرشاة) يعطى لنا لنعمل معه ونعرفه أو نصفه بدقة أكبر:
والبلدان، المدن وخلجان البحار 
المخصصة لفرشاتي
صرت أقرب الآن لإجادة وصفها والتعبير عنها
ويستمر الشاعر متحدثا في القصيدة عن نداءات الباطن والدعاء الرباني ليصور حالة الارتباط والمصير المشترك والتآزر بين جميع البشر:
لم أكن منعزلا عن الناس
فالأسى والأسف 
كانا يوحدانني معهم
قصيدة (النضج المتأخر) تجمع في ثيماتها العلاقات بين الأرض والسماء، وبالرغم من احتوائها على أشياء محبوبة وممتعة في هذا العالم  مثل المدن، الحدائق، خلجان البحار، صبغ الأهداب، وغيرها لكن هذه الاشياء مغمورة بضوء السماء وضوء كينونتنا نحن (أطفال الإله) عارفين بأن لاخلاف حول من أين أتينا ولا انقسام بين نعم ولا أو الان أو الماضي والمستقبل:
كنت دائما أعرف بأنني سأكون
عاملا في مزرعة كروم 
كما هو حال جميع الرجال والنساء
الذين يعيشون في زمن واحد
ولايهم سواء كانوا واعين بذلك ام لا .
وبالرغم من كونها قصيدة هادئة بانحياز واضح للايمان الديني وبفهم  جلي بأن جميع هذه الأمور حقيقية وبأننا جميعا نعمل في مزرعة الكروم العائدة لأبينا الرب سواء كنا واعين أم غير واعين لهذا، أقول بالرغم من هذا فإن الشاعر لايتعصب لهذا ولايصدر أحكاما مضادة لهؤلاء غير الواعين أو غير المؤمنين بهذه المشاعر الدينية، تاركا الباب مفتوحا  ليدركوا هذا بروح انسانية صافية تعد احدى أهم الخصائص الشعرية التي تميز عالم ميلوش الروحي وتجربته الثرية.