طالب عبد العزيز
ليست الكمأة في سوق الزبير تمظهراً شتائياً، موجباته الرعد والبرقُ والمطر، فتزدحم السوق بالسلال والعربات والوجوه المقرورة، هي منتجٌ صحراويٌّ، وترف ثقافيٌّ أيضاً، ففي البرية المطلقة بين بادية السماوة والمخفر الحدودي بصفوان ثمة ما يربك الخيل، ومن عليها. هناك، إذ لا أحد بمستطاعه لجم الافق، أو اللحاق بالشمس وهي تغيب، أو وهي تشرق ثانية في الصباحات. كلما صرت الى هناك، تسبقني الذاكرة، وتحضرُ المقبرة، بعلامتها المضيئة، الحسن بن يسار البصري، ويتعثر البصر بكِسرِ الشواهِد والارقام، فلا أحصي واحدةً، ولا أخطئ جدثاً، ولا أشيح به عن حبة رمل، هذا الشاعرُ المحمولُ مع المطر من الكويت، وهذا البريكانُ المحمود، الذي تتجدد حادثة مقتله في مثل الايام هذه، من كل عام، وليس بعيداً عنهما يثوي محمود آخر، ذاك الذي آثر أن يكون كتاب سيرته صغيراً، صغيراً بحجم الكف. في كل زيارة الى الزبير، كنت أقتفي خطى أبي، الذي كانت دابّته رجلاه، قبل أن تحمله برذونه من أبي الخصيب الى هناك، بضاعته التمرُ والحطبُ، وتجارته عائداً منها الثوم والبطيخ، في الرحلة التي تمتد من النخل الى الرمل. لا أحفظ الطريق بالتمام، لكنني، ومن زجاج المركبة كنت أبصرُ طغراء قدميه وحوافرَ برذونه فيما بعد، ذاك المسير الطويل ظل يرافقني في كل رحلة الى سوق الكماة، حيث يجلس الباعة حتى آخر النهار، وحيث يستبدل المتبضعون الوجوه واللثمَ والنظرات، غادين ورائحين، كنت أبحث في الظلال الباهته وهي تخطف، متعجلة عن وجه ابي، وهو يستبدل التمرَ بالثوم، والحطبَ بالبطيخ. قبل ربع قرن ويزيد، اختفى سوق الاعلاف في الزبير، ومثله اختفت المفازة التي كانت تفصل سوق الطعام عن محال الرفائين والخرازين وحذائي الخيول، ذاك الخشب والصفيح المتعامد، الذي كانت تفضي واجهته الى المستحم، ولم أجد سوق الكماة كما عهدته، قبل ذاك. قليلون هم الذين يبحثون في الظلال عن وجوه أسلافهم هنا، ولا يشعرهم أحد باختفاء ما كان يؤثث حياتهم، والاختفاء هنا لا بمعنى المحو والتواري في الارض، إنما بتهالك العلامات وإماطة اللثم. لم تكن أوبتي خائباً من سوق الكماة خفيفة الوطء، عابرةً، ولن أجد في الشتاء الذي مرَّ سريعاً مرثية للروح، ذلك لأنَّ ما ظل يختفي فيها لا يعينني على المكث طويلا هنا.في الطريق القصيرة، التي ما انفكت شجيرات الاثل تطوّقها، عند مدخل المدينة، تذكرت (البدويّ الذي لم يرَ وجهَه أحد) كنا نسميّه (حارس الفنار) قبل طعناته التي لم تبلغ العشرين الى اليوم. هناك مدن كان لها أنْ تظل ملثمة، وعلى سدنة مداخلها أنْ لا يفصحوا عن وجهتها في الزمن، وحريٌّ بنا، نحن الرواة أنْ لا ندخلها سافرين، باحثين في السوق عن كمأتها.
* الشاعر محمود البريكان توفي في 28 شباط 2002