في روايته الحافات، نشرَها كاملة في مجلة الأقلام ديسمبر 1986، ثم أجرى تغييرات كثيرة، ظهرت في نسخة دار الشؤون الثقافية في بغداد 1989. وفي الأعمال الكاملة عن دار تموز 2018، كانت الرواية مطابقة.
عين الرَّقيب سنة 1989، ربما لم تقرأ النص بأكمله، لأنَّ النَّص منشورٌ في مجلة الأقلام قبل ثلاث سنوات!، ولم يخطر على بال الرقيب، أنَّ جنداري سيُغامِر ويجري تغييرات على النص!، قد يكفينا تغييره عنوان الفصل الأخير (حافة الذكرى) إلى (حافة اليأس).
وللشعراء والأدباء نبوءات، يشهد لهم بها التاريخ، يرون الكوارث قبل وقوعها بسنوات، وذكر الطبري في أحداث سنة 186، تحذيرات الشعراء للرشيد، بيعته لثلاثةٍ من أبنائه (اللهُ فَرَدٌ واحدٌ، فاجعل ولاة العهد فردا).
(وقلد الارضَ هارون لرأفته، بنا أمينا ومأموما ومؤتمنا) ومن مشاعر الشَّفقة يبدأ الخراب. وقصيدة طويلة لشاعرٍ حَرَصَ ألا يُعرَف، خوفاً من بطشِ الحاشية ونِفاقهم، بدأها (أقولُ لِغُمَّةٍ في النفس مني، ودمع العين يطرد اطرادا) و(رأى الملك المُهَذَّبُ شَرَّ رأيٍ، بِقسْمَتِه الخلافة
والبلادا.
فقد غرس العداوة غير آلٍ، وأورث شمل ألفتهم بدادا. وألقح بينهم حربا عوانا، وسلس لاجتنابهم القيادا. فويل للرعية عن قليل، لقد أهدى لها الكرب الشدادا).
جنداري في حافة الذكرى (لكنني أتذكر الآن بفضل هذا الاحتفال الذي يثير شتى المشاعر في نفسي، تذكرت من أي شيء كان يخاف. ليس من الحرب كما تتوقعون، لا لا، لأنه كان لا يفتأ يذكرني يوميا بأنها لابد أنْ تنتهي.
أتدرون بماذا كان يحدثني عندما يضطرب صوته ويتحشرج؟ كان يتحدث عن نبات سام يسميه الهابیانکو. ويقول إنه نبات بري ناعم الملمس يحمل ورودا حمراء فاقعة في بعض أيام السنة.
هذه الورود الحمراء تبقى في زمن الحروب، زاهية لا تنطفئ أبداً.
هذه الورود الحمراء عندما يخف زهوها وتوشك أن تنطفئ، فإن النبات نفسه يبقى على خضرته العميقة وملمسه الناعم. كان يهمس في
أذني.
وهو متكئ على المدرجات ونحن متجهان الى غرفتنا أن هذا النبات سامٌ يا ثامر. سام وقاتل، ينتشي برائحة الدم البشري، ويزدهي على صوت الانفجارات
والحرائق.
يتململ السم في خضرته ويجري من دون أن يبصره أحد، وهو موجود في الكثير من البلدان، لا ينمو إلا على حافة الحرب والتناحر الوحشي. ولكنه حقيقة لا ينتشر إلا في البلاد المتاخمة للبحر المتوسط. كان علوان يكره المتوسط كرهاً شديداً. قلت اطمئنه:
- إنَّ بلادنا بعيدة، فلا تُضَخِّم الأمور.
- بلى، بلى، بلادنا مليئة بهذا الهابيانكو السام ولكنه لم يعطِ وروده الحمراء بعد) مجلة الأقلام العراقية، عدد ديسمبر 1986، ص259.
في حافة اليأس (ولكنني أتذكر الآن بفضل هذا الاحتفال الصغير، الذي يثير في نفسي مشاعر شتى، من أيِّ شيءٍ كان يخاف، ليس من الحرب كما تتوقعون، لا لا، لأنه كان يذكرني يوميَّاً بأنها لابد أنْ تنتهي.
رغم أنَّه يزيد مستطرداً: دائماً إنَّ حرباً لعينةً مثل هذه، لن تُبقي على شيءٍ من بلدٍ صغير. كان يعرف أنَّها ستطول، وستحصد البشر، وستكسر في النفوس جذور الحياة وتطفئها، ستنتقل إلى الشوارع، والأطفال والنساء والناس العزل، فهي حرب همجية قاسية مدمرة، لا تنطوي على أية رحمة) محمود جنداري، الحافات، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1989، ص130.
النبوءة: انتشار الهابیانکو، نبات سام بري ناعم الملمس يحمل ورود حمراء فاقعة، وهذه الورود الحمراء عندما يخف زهوها وتوشك أن تنطفئ، فإن النبات نفسه يبقى على خضرته العميقة وملمسه
الناعم.
وفارق الحياة وهو يُحذِّر من هذا النبات القاتل سريع الانتشار، ولا أحد ينتبه لخطورته، ينبت في كل مكان، يحتفظ باخضراره طوال السنة، ينتشر في دول حوض البحر المتوسط، وهو يقصد الشرق الأوسط، وسيصل العراق بعد سنوات، وهو ينتشر في البلدان التي تخرج من الحروب.
الهابيانكو رمز لروح الكراهية والأحقاد الدفينة لألف سنةٍ وأكثر، روح التعصب الديني، غذاء الحرب الطائفية القذرة القاسية التي لا ترحم صغيراً
ولا شيخاً.
بعد نشره لرواية الحافات 1989، حكم بالسجن المؤبد 18 حزيران 1990 من محكمة الثورة، وخرج 21 ديسمبر 1991 لشموله بقرار العفو 241 في 21
تموز 1991، وقدَّم للتقاعد وبدأ
يستعد للهجرة إلى الأردن!، وفي اليوم الذي ودَّع والديه، وحقيبته في يده، سقطَ ميتاً من دون أيَّة أعراض، وما زالت
حقيبته كما هي لم يفتحها أهله إلى يومنا هذا!.