بيت لنزار قباني

ثقافة 2021/03/15
...

د. حسين القاصد
لَمْ أَرَ شاعراً يفرط بفنية قصيدته ودقة تصويره وروعة استعاراته، مثل نزار قباني؛ فنزار صاحب اللغة الناعمة الرقيقة المؤنثة سرعان ما يغير صياغة بيت أو بيتين لينسف الصورة الإبداعية البكر ويأتي بجديدة تخضع للعرض والطلب.
وأمثلة ذلك لدى نزار قباني كثيرة، لأنه ليس لقصيدة لديه أن تستقر على صورتها لحظة ولادتها إذا جاء مطرب أو ملحن ليطلب يدها!؛ إذ سرعان ما يدخلها إلى صالون التحبيب لا التجميل لأنها جميلة في أصلها، لكنه يقوم بعمليات أحيانا تكون قيصرية ليخرج لنا ببيت مشوه لكنه يرضي ذائقة المطرب أو الملحن.
نزار الشاعر السوري الذي عشق بيروت مثل أي شاعر عربي، يقابله كاظم الساهر المطرب العراقي الجنسية، الذي أراد لقصيدة من قصائد نزار أن تحمل شيئا من الدلالات العراقية؛ وما كان من نزار إلا الخضوع لحالة العرض والطلب فنسف أروع صورة شعرية ليبدلها بصورة ليست سوى كلام موزون مقفى.
جرب عزيزي أن تضع قطرة زيت في قدح ماء، ثم ضع قطرة أخرى، سترى أن القطرتين لاتذوبان في الماء ولا تتفقان معه، وحين تقترب احداهما من الأخرى ستتحدان وتكونان قطرة واحدة جديدة بحجم أكبر.
وقطرة الزيت في الماء الصافي دليل لوثة وتعكير لصفو ذلك الماء؛ أما الوجع فلا شيء يكره مثله وهو دليل لوثة في صفاء صحة الجسد.
في قصيدته (زيديني عشقا زيديني) ارتكب نزار قباني جريمة ذوقية بحق واحد من أجمل أبياتها وأعني به (وجعي يمتد كبقعة زيت.. من بيروت إلى الصين)؛ وبيروت تقع على البحر بل هي طفلة البحر المدللة، وبقعة الزيت هذه تمتد على طول البحر ليلتاث بها كل صفاء البحر وزرقة السماء في مرايا مياهه؛ فكم هو كبير ذلك الوجع الذي يقطع البحر كله متصلا كأنه بقعة زيت!.
لكن الشاعر سرعان ما عبث بوجعه وباعه بأرخص الأثمان حين قام بتغيير البيت ليكون (وجعي يمتد كسرب حمام.. من بغداد إلى الصين)؛ فسرب الحمام وصال سلامة ومحبة لا وصال وجع وحزن؛ كما أننا لم نسمع بأسراب الحمام التي تحمل الوجع في أيام الهجرة الموسمية بين أهوار العراق والعالم؛ أما إذا أراد المطرب ولا أقول الشاعر، إذا أراد بسرب الحمام أن يتغنى بنوارس دجلة فلا النوارس نذير وجع أو تدل عليه؛ وليس لدجلة أن توصلها إلى الصين، أو من الصين إليها. لقد أفرغ البيت من محتواه الشعري امتثالاً لرغبة المطرب وفق قوانين العرض والطلب، ليضحي بذلك بواحدة من أروع الصورة الجديدة المبتكرة بكلام موزون مقفى غير مطمئن المعنى على الرغم من استقامة المبنى.
ليست هي المرة الأولى التي يتنازل فيها نزار عن صورة شعرية فقد فعلها في (قارئة الفنجان) كما فعلها في قصيدته (إلى رجل) التي استبدل فيها الفعل (يدخن) بالفعل (يفكر) ليطيح بالقيمة الشعرية للبيت؛ لأن التدخين شيء إرادي لكن التفكير ليس لعاقل أن يمنعه أو يتحكم به، فلماذا جعل (يا من يدخن في صمت ويتركني) وهو بيت فيه ما فيه من التجاهل القاسي، لكن الشاعر جعله (يامن يفكر في صمت ويتركني)! أرى أن هذا التفريط إساءة للشعر بشكل عام قبل الإساءة لشعر نزار.