كِمامة الموناليزا.. والعيون البليغة

ثقافة 2021/03/15
...

 د.نصير جابر
لا شكّ في أن ذاكرة الانسان واحدة من معجزات هذا الكون التي ماتزال تشغلُ العلماء وتستحثّهم على البحث والتنقيب فيها لمعرفة أسرارها وغوامضها الدقيقة، فهذه الذاكرة المعقّدة ذات السعة اللانهائية تختزن خلال فترة حياة الفرد الكثير من المشاهد العامة والخاصة ذات الدلالات المتفرّدة التي تختارها هي بطريقة غير معروفة لتحتفظ بها معلّبة داخل حيز آمن، فهناك اللقطات والمشاهد الذاتية التي ترافق حياتنا أمثال لحظات النجاح والألم والحوادث والانتقال من مكان إلى آخر، وهناك اللقطات العامة التي نعاصرها مثل الأحداث الجسام والحروب ووفيات بعض الأعلام وغيرها من المواقف التي يراها أغلب البشر فتثبّتُ في سجّل الذاكرة من دون غيرها بطريقة انتقائية ثم تُستعادُ كلما حدث تداعٍسيكولوجي يسوّغ رجوعها أو تُستدعى في لحظات الحنين كمعادل فعّال يعيد التوازن العاطفي والنفسي. 
لكن هذه الذاكرة تقف أحيانا عاجزة أمام وحش مرعب بدأ باجتياحها مؤخرا هو الزهايمر ذلك المرض الغريب الذي يأكل بصمت وتمهل ذكرياتنا فنصبح مثل قطعة فلين نطفو في محيط النسيان الشاسع لانعرف من نحن وعلى أي أرض أوفي أي زمان.. مجرد (أنوات) لا آخر معنا نحاوره ونسامره.. هذه الذاكرة تجرّني بطريقة ما إلى ما نعشيه اليوم ومنذ أكثر من سنة بسبب اجراءات الوقاية من الوباء، هذه الاجراءات التي ستبقى ترافقنا لفترات طويلة على شكل ذكريات مخزونة، فالسيناريو الغرائبي الذي بدأ بغتة بأخبار عاجلة ثم بوصايا هلعة، تطلب منا ارتداء الكمّامات والنظارات الطبية والملابس الواقية وغيرها من وسائل اخفاء الوجه وملامحه خوفا من عدوى مرض مرعب.. سيناريو جرّنا إلى مساحات أكثر غرائبية من الخوف من المرض مساحات تتعلق بوجودنا وماهيته وطرق تواصلنا التقليدية وغيرالتقليدية وعن بداية ظهور الكمّامات.. وتاريخها خاصة مع المرأة.. شريكتنا الأزلية في هذا 
الوجود.
وتجرّني أيضا-مع التنبيه- إلى أن الكثير من قصص الحبّ بدأت خلال العام الماضي وماتزال تتشكل فتدنو وتبتعد من الاكتمال وغيرها من لحظات التعارف والمواقف الحرجة مع كمّ الصور الهائل الذي روّج للكمامات والطرق الأخرى كلها ستكون في لحظة استدعائها من الذاكرة في المستقبل مقرونة بالكمّامة، إذ تبدو الملامح غير مكتملة.. نصف وجه وعيون تحاول أن تتحدث بلغة مكثفة بعد أن غابت الملامح الساندة: الفم وحركات الشفاه وعضلات الوجه وغيرها من الاشارات التي تبثّ لحظة التواصل. فتعطي للكلام تأثيره المطلوب وتضبط ايقاعه مع معانيه ودلالاته.
ولكي نبتعد عن الاعتساف والمبالغة ولِي المعاني إلى حيز الموضوع نعيد هنا ترتيب ما مرّ في جمل مفيدة: فنقول من المؤكد أن الكمّامة بوصفها أداة حجب ومنع اجبارية قد أسهمت في استنهاض لغة جديدة قديمة يعاد اكتشافها دائما في لحظات الحاجة الملحة إليها هي لغة العيون التي طالما تغنى بها الشعراء والكتاب على مرّ العصور وطالما تابعنا تفاصيلها في مقاطع لاتعدّ ولا تحصى في الأفلام والأغاني فشكلت ذاكرتنا وأثّثتها بمشاهد دالة لوجوه تتحدث بلغة جديدة بليغة.. لغة ننتظر ظهورها في الكتابة والفن بجميع أنواعه وأشكاله.
ومن المؤكد أيضا أن الكمّامة كانت موجودة على مرّ العصور بصفتها الرمزية خاصة مع المرأة التي تُمنع من الكلام والتعبير الواضح عن مشاعرها تحت ذرائع مختلفة؛ لذا ولهذا السبب ربما كانت عيون النساء أخصب بالمعاني العميقة وأكثر تعبيرا من عيون الرجال لأنهنّ منذ عصور غابرة تكممن فنضجت لديهنّ هذه اللغة البديلة.
ربما يكون هذا الموضوع قد خطر ببال بعضهم وربما كُتبت فيه مقالة ولكن يبقى سؤالي المحدّد والخاص جدا هنا: هو كيف ستظهر هذه اللغة وكيف يمكن أن توظف في تخصيب الفنون؟، ومن ثمّ شغل الذاكرة بصور ولقطات منتقاة عن عالم جاد جدا وعميق جدا لابدّ أن نتعلم قراءته.. لأنه عالمها هي.. المرأة المكمّمة منذ عصور طويلة.
في فيلم الصرخة (انتاج 1991) وهو من الأفلام العربية القليلة التي تناولت قضيّة الصم والبكم تنشأ علاقة معقّدة بين البطلة التي أدت دورها بكثير من الاتقان الفنانة معالي زايد 
(1953 - 2014) مع الشاب الأصم والأبكم أدى دوره الراحل نور الشريف 
(1946 - 2015) علاقة بلغة العيون 
فقط.
ولعل من أكثر عيون النساء خصبا وعمقا وغموضا عيون الموناليزا التي أبدعها دافينشي (1452 - 1519) هذه العيون التي عبرت الأزمان واللغات والأعراق وحيّرت كل من يراها.. وربما يرى أو لا يرى الكمّامة التي كانت ترتديها.!