وحيداً تركته المراكب

ثقافة 2021/03/15
...

 حبيب السامر 
كان يوم الخميس حزينا جدا، حين تحدث معي الشاعر حسين عبد اللطيف في ضحى العاشر من تموز 2014، كان صوته واثقا، طلب مني إرسال ما كتبه الشاعر سعدي يوسف عن كتابي (أصابع المطر) الصادر عام 2012، بعدها تحدث مع صديق آخر، فعلا، كان (حسين) منشغلا بمشروعه عن سعدي، لا شيء ينبئ بما حدث خلال الساعة الثانية بعد ظهر الخميس، لحظة مهاتفة الدكتور عامر السعد لينقل لي خبر الوفاة الحزين، الذي لم أصدقه بل اعتبرته مزحة ثقيلة، لكن الرياح سارت بما لا تشتهي أرواحنا. 
حين أقول الشاعر، المعلم، أتحسس كرسيه الفارغ في مكتبة (القبة)، المقهى، اتحاد الأدباء، ما أحوجنا الى صفاء روحه المحلقة حول الجميع، كان قريبا من الأدباء يمضي وقته معهم، بنصائحه الوثيرة، وتصويباته لمن يحتاج وجهة نظر في قصيدة أو رؤية ما.. يخاطب الموجة وهي تنأى عنا، يومئ للريح لتزيح عن يومياته الحزن، يخاطب طيوره الواطئة لتأكل من مائدة الشعر ما تيسر من الكلمات، يرقب المارة في زحمة هذا العالم، فجأة، ومن دون سابق وجع، لا أحد يتوقع أن يتوقف القطار بحمولته. 
قصيدة (نار خضراء): قطار الحمولة، قطار الليالي، قطار السنين الخوالي، الى أين تمضي بركابك الميتين؟، في الساحة الشعرية المزحومة بالأسماء والتجارب، تتضح لغة حسين عبداللطيف وفعله العميق، لما اختط وترك البصمة الواحدة، المتفردة في البناء، مستثمرا الحالات اليومية المعيشة، متأثرا بمنابع صافية من التراث والفولكلور الشعبي، وتقاليد حكايا ولعب الطفولة، بثراء موضوعي وأسلوبية خاصة، مما يزيد في توقه الاهتمام بخطه الفني في تركيب القصيدة واختياراته المدهشة لبؤرة النص بلغته الشعرية الأثيرة، حين ننظر مليا في تقاسيم وجهه تجد مزيجا من اللوعة والحزن والشكوى، وفي لحظة يقلب الحديث الى مزحة لا تخلو من الشتائم غير المقصودة، كونه يتعامل مع الآخرين بروح الشاعر الحقيقي من دون ضغائن، يغلب على قصائده ثراء المفردة المرتبطة بالجمالي، تتحرك في ذاكرة ملاعب الطفولة والانفتاح على روح المدينة الحية والضاجة بالأشياء التي يتعامل معها بفنية عالية وبفطرية تميل الى المتلقي في استيعابها، يحيل الكلمات الهائمة في القصائد الى بلورات شعرية من خلال حرصه الشديد على ترك بصمته وصوته 
المتفرد. 
نتلمس غرائبية عنواناته الرئيسة في الكتاب والفرعية في القصائد كونها ترسم ايحائية واضحة ولها دلالات عميقة كما يصفها جيرار جينيت بالمناصات. 
رحل مبكرا وفي قلبه الكثير من الأسئلة.. ربما وحشة الغياب وقلقه المستديم لمشغله الشعري الذي كنا ننتظر منه الكثير، ليضيف الى مشعل الحداثة جواهر شعر أخرى. 
الكتابة عن شاعر مجدد ومجرب مثل حسين عبد اللطيف، لا تكفيها مساحة بحجم (مقال) بما يحمله من دهشة ومفارقة في الكتابة الشعرية وحوار دائم مع النفس مشبع بالاحتفالات بالطبيعة والمراثي وكثافة في اللغة بجملته التي كرسها في كتابه (بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة.. متوالية الهايكو) / وزارة الثقافة – بغداد – 2012. 
وتدفعنا الرغبة في معرفة كتابه الشعري الأول (على الطرقات أرقب المارة – وزارة الاعلام – بغداد 1977)، الذي كان علامة فارقة في الشعرية العراقية تبعه بكتابه الثاني (نار القطرب) الذي أكد روح الشاعر ولفت الانتباه له أكثر والصادر في بغداد عام 1995، أما كتابه "وحيدا على الساحل تركتني المراكب") ظل مؤجلا حتى العام 2017، حين طبع في دار أزمنة، إذ وصلت بعض نسخ قليلة إلى أسرته وقد شملت بعض 
اصدقائه). 
لقد نحت الشاعر الراحل بصمته الشعرية بتأنٍ وفق مفهوم التفرد وتجديد الفعل الشعري ورؤيته الثرية الوضاءة بمساحة مدهشة من عوالم تمطرنا قصائد بلون الغياب 
المتكرر.