كينونة في حالة عدم اليقين مفهوم جون كيتس عن القدرة السلبيَّة

ثقافة 2021/03/17
...

  ريتشارد جوندرمان
 
  ترجمة: جمال جمعة
عندما توفي جون كيتس قبل 200 عام، في 23 فبراير 1821، كان عمره 25 عاما فقط. وعلى الرغم من حياته القصيرة، إلا أنه لا يزال يعد واحدًا من أفضل الشعراء في اللغة الإنجليزية.
ومع ذلك، فضلا عن روائع مثل "نشيد إلى عندليب" و"إلى الخريف"، فإن إرث كيتس يتضمن مفهومًا استثنائيًا، أسماه: "القدرة السلبية".
الفكرة (التي تركز على تعليق الحكم على شيء ما من أجل معرفة المزيد عنه) تظل حيوية اليوم كما كانت حينما كتب عنها أول مرة.
فقد كيتس معظم أفراد أسرته بسبب مرض معدٍ، وهو مرض السُّل، الذي أودى بحياته لاحقًا. بالطريقة نفسها التي قلبت فيها جائحة الفيروس التاجي عوالم العديد من الناس رأسًا على عقب، طوّر الشاعر إدراكًا عميقًا لالتباس الحياة.
ولد كيتس في لندن عام 1795. توفي والده في حادثة ركوب خيل عندما كان كيتس في الثامنة من عمره، وتوفيت والدته بمرض السلّ عندما كان في الرابعة عشرة من عمره. عندما كان مراهقًا شرع في دراسته الطبية، أولاً كمتدرب عند جرّاح محلي، ولاحقًا كطالب طب في مستشفى غاي، حيث ساعد في العمليات الجراحية والعناية بجميع صنوف الناس. بعد إكمال دراسته، قرر كيتس مع ذلك ممارسة الشعر. في عام 1819، قام بتأليف العديد من أعظم قصائده، على الرغم من أنها لم تنل إشادة واسعة النطاق خلال حياته. بحلول عام 1820، أصيب بمرض السلّ وانتقل إلى روما، حيث كان يأمل أن يساعده المناخ الأكثر دفئًا هناك على التعافي. انتهى به الأمر بالموت بعد عام لاحق.
صاغ كيتس مصطلح "القدرة السلبية" في رسالة كتبها إلى أخويه جورج وتوم في عام 1817. مستوحيًا من أعمال شكسبير، يصفها بأنها "كينونة في حالة من عدم اليقين، والغموض، والشكوك، من دون أي محاولة انفعاليّة للوصول إلى الحقيقة والسبب".
السلبية هنا ليست ازدراء. بدلاً من ذلك، فهي تلمّح إلى القدرة على مقاومة تفسير ما لا نفهمه.
بدلاً من التوصل إلى استنتاجٍ آنيٍّ بشأن حدث أو فكرة أو شخص ما، ينصح كيتس بالاستناد الى الشك ومداومة النظر والاكتناه من أجل فهمه بصورة أكثر كمالاً. وهو في هذا يستبق عمل الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل دانيال كانمان، الذي حذّر من وجهة النظر الساذجة القائلة بأن "ما تراه هو كل ما هناك".
إنها لفكرة جيدة أيضًا أن تأخذ الوقت الكافي للنظر في الأمور من وجهات نظر متعددة. تمتلئ كوميديات شكسبير بالهُويّات والمفاهيم الخاطئة، بما في ذلك التشوّش الجَندري. ينبهنا كيتس إلى أننا على الأرجح سنكتسب رؤى جديدة إذا استطعنا التوقف عن الافتراض بأننا نعرف كل ما نحتاج لمعرفته عن الناس من خلال حشرهم بعناية في صناديق مسبقة الصنع.
تشهد القدرة السلبية كذلك على أهمية التواضع، الذي وصفه كيتس بأنه "القدرة على الاستكانة". وكما يشير سقراط في "الدفاع" لأفلاطون، فإن الأشخاص الأقل احتمالية لتعلم أي شيء جديد هم الذين يعتقدون سلفًا أنهم يعرفون كل شيء. وعلى النقيض من ذلك، فإن أولئك الذين هم على استعداد لاستنطاق افتراضاتهم الشخصية وتبنّي وجهات نظر جديدة يكونون في موقع أفضل للتوصل إلى رؤى جديدة.
يعتقد كيتس بأن العالم لا يمكن فهمه بالكامل على الإطلاق، ناهيك عن التحكم به. في رأيه، ينبغي تجنب التكبّر والغطرسة بأي ثمن، وهو تنبيه مناسب بشكل خاص لأن العالم يواجه تحديات مثل تغيّر المناخ وجائحة الفيروس التاجي.
في الوقت نفسه، يبدو أن تكنولوجيا المعلومات تمنح كل شخص إمكانية الوصول الفوري إلى جميع المعارف البشرية. من المؤكد أن الإنترنت هو بوابة فريدة للمعرفة، لكنه كذلك ينشر بشكل عشوائي معلومات مضللة ودعايات، غالبًا ما تغذيها خوارزميات تتكسّب على الانقسام والتفرقة.
وغنيّ عن القول أن هذا يمكن أن يلقي على الفهم بظلال من يقين زائف.
ولذلك غالبًا ما يوصف عصرنا بأنه عصر مستقطب: نساء مقابل رجال، سود مقابل بيض، ليبراليون مقابل محافظين، الدين مقابل العلم، إذ يسهل الانزلاق تلقائيًا إلى الافتراض السطحي بأن جميع المخلوقات البشرية يمكن تقسيمها إلى معسكرين. تبدو وجهة النظر المضمَرة هي أنه إذا كان من الممكن فقط تحديد جانب القضية التي يصطف عليه الشخص، فلا داعي لمزيد من البحث.
على الضد من هذه النزعة، يشير كيتس إلى أن البشر دائمًا ما يكونون أكثر تعقيدًا من أي تصنيف ديموغرافي أو انتماء حزبي. وهو يستبق هنا حائزاً آخر على نوبل، الكاتب والفيلسوف ألكسندر سولجنيتسين، الذي كتب أنه بدلاً من وجود "أناس أخيار" و"أناس أشرار"، فإن العالم يتكون من أشخاص معقدين بشكل مدهش وأحيانًا متناقضين حتى مع أنفسهم، وكل منهم قادر على إتيان الخير والشر:
لو كان فقط كل شيء بهذه البساطة! لو كان فقط هناك أناس أشرار في مكان ما يرتكبون بمكر أفعالاً شريرة، لكان من الضروري فصلهم فقط عن بقيتنا وتدميرهم. لكنّ الخط الذي يفصل بين الخير والشر يخترق قلب كل إنسان. ومَن ذا الذي يرغب في تدمير قطعة من قلبه؟.
يمكن لعدم اليقين أن يكون مرهِقًا. غالبًا ما يكون من المغري تمامًا التوقف عن الإمعان في التفكير بالمسائل المعقدة والقفز إلى الاستنتاجات. 
لكنّ كيتس ينصح بخلاف ذلك. فمن خلال مقاومة إغراء نبذ الآخرين وازدرائهم، من الممكن فتح الباب لاكتشاف سمات لدى الناس تستحق التعاطف أو الإعجاب، وقد يُنظر إليهم، مع مرور الوقت، على أنهم أصدقاء.
The Conversation