اغتراب التشكيل العراقي

ثقافة 2021/03/17
...

  لمياء نعمان
 
 الرواد المعروفون من التشكيليين اطلعوا واكتشفوا أفق الفن العالمي بكل مدارسه الكلاسيكية، الانطباعية، التعبيرية، الواقعية، الدادائية، الوحشية، التكعيبية، التنقيطية عن طريق دراستهم في الخارج.. لكنهم لم يستقروا ولم يعيشوا اغترابهم في الخارج بل رجعوا ليكونوا هم وما تعلموه مواد دراسة في معهد وكلية الفنون الجميلة، وتعرف الطلبة ومن خلال الفنانين هؤلاء على سيرة فنانين أمثال سيزان، فان كوخ، لوتريك، دافنشي، مايكل إنجلو، رودان وغيرهم. وكانت المكتبات عامرة بكتب فنية نادرة كانت في متناول الطلبة الدارسين، فأصبح طلبتهم يعيشون ظلال أحلام الهجرة للتعرف على مدن الفن والجمال. ومع مرور الزمن وبسبب ظروف البلد العصيبة بدأ الفن التشكيلي ينحسر ويكابد وجعه، فوجد مساره في الهجرة ليعيش الفن العراقي حالة "الاغتراب"، فهاجر المبدع العراقي واقتحم عالما يصعب اختراقه في المهجر ليجد أساليب حديثة في التشكيل غير التي درسها وفهمها عن طريق أساتذته، لكنه وجد نفسه في بداية الأمر ضالا وتائها وسط عوالم تتسم بأبجديات لم يتعرف عليها سابقا في دراسته الأكاديمية، وأصبح يعيش صراعا لإثبات فلسفته الجمالية التي تربى عليها وعاشها، وفي الوقت نفسه عليه مواكبة المتغيرات والمناخات الفنية العالمية التي تحمل - من وجهة نظره- أضداد الفكر والفلسفة الجمالية والإنسانية التي اعتاد عليها في أجوائه السابقة.
كما عليه تحقيق ذاته وعالمه الفني الذي أخذه الى أصقاع العالم لمحاولة الانطلاق نحو تمنيات جديدة بالإبداع والشهرة وبعض المال كما كانت أحلامه تراوده في الوطن الأم، ومع مرور إقامة المبدع المغترب في مدن جديدة وأوطان مختلفة تأثر بالتأكيد بفنطازيا الألوان الشفافة وفلسفة المكان والزمان وبالشخوص والحياة الأوروبية فالتمست أفكاره اشتراطات معادلة لإثبات تأملات رمزية ربما لم تكن في الحسبان، فاستنبط اشارات ورموزا فنية بدأت تتراجع عما اكتنزه من خبرة في وطنه الأم ليعَبر عن مزايا لفن أوروبي كي يتمكن من توفير فرصة للتنافس والحضور بين فناني العالم حتى يتم التعرف عليه والحصول على موارد من فنه على الرغم من أن أغلبهم لا يعتاش من فنه، بل من العمل بمهن أخرى تعد أكثر ملاءمة لوضعه الجديد مع متطلبات أسرة تحتاج للمال بشكل دائم، هاجس الغربة بدأ لدى الفنان يعتمد صياغات مغترب بكل التكوينات والأفكار والرؤى والمتغيرات.. لذا بدأت ملامح الفن تجد طريقها للاغتراب والتغير حسب منظومة المجتمع الذي يعيشه الفنان، فبعضهم أضاف ألوانا وشخوصا أوروبية في أعماله لكن بقيت الأساليب والتناظر والتماثل أجزاء غير متحركة من اللوحة، مع مرور إقامة الفنان في بلده الجديد يعيش التشكيل العراقي ازدواجية في تركيبة اللوحة والعمل الفني أيا كانت خامته وفقدت ميزة الالتزام بالأفكار وجمالية الشرق والتراث وهي خطوات يعيشها الفنان المغترب على أنها واقع حال لمتغيرات منظومة الحياة التي يعيش في ظلها ويلتزم امام مجتمع لا يقر إلا بما يتناسب مع الحداثة الفنية العالمية وتقليعاتها في استحداث أساليب تبهر المشاهدين والراغبين بشراء الأعمال الفنية أو عليه أن يركن فنه وتاريخه من دون أن يستمر بحضوره وإبداعه. أعمال الفنانين المغتربين نشاهدها على مواقع التواصل الاجتماعي وهم يقدمون أساليب جديدة جميلة حقا، لكن يلفها أحيانا التجريد والرمزية والتعبيرية لتعوض عن تيه شخوصهم وعُريها في بعض الأحيان وبأفكار ملتبسة مع حسهم الجمالي والفلسفي، بعضهم التزم بمنحى رؤيته وظل معتكفا بأسلوبه ولا يزاوجه ولا يخلط ألوانه بألوان الغرب وحافظ على التوازن للإرث الذي ظل معه في هواجسه وإنسانيته، ويعني هذا أنه لا يستطيع الحصول على موارد مالية لقاء أعماله. لذا يظل الفنان العراقي وفنه يعيشان الاغتراب في زمن اختلفت فيه موازين الفن بأشكاله وتنوعه.