سلطة الراوي.. قمع الشخصيات

ثقافة 2021/03/18
...

  د. جاسم حسين الخالدي
 
تعدُّ رواية "مرام" لحسن البحار واحدة من الروايات التي اشتغلت على ثيمات متعددة، وليست على ثيمة واحدة، أي أن الرواية لم تتضمن موضوعًا واحدًا ينتظمها، ويشكل فعلًا رئيسا تتفرع منه أفعالٌ أخرى.
رواية (مرام) حكاية (إبراهيم) وأخته (عزيزة): إبراهيم؛ لأنَّه الشخصيّة الأكثر هيمنة على متن الرواية، وعزيزة؛ لأنّها الشخصيّة التي ارتبطت بها الأحداث، فهي المرأة التي فرضت نفسها على الحدث، في حين أنَّ الشخصيات الأخرى ما كانت لتؤثر في الأحداث إلّا من خلال هاتين الشخصيتين.
يستأثر الراوي في (مرام) بالسرد والمعرفة على حساب الشخصيات الأخرى؛ فنجده في أحايين كثيرة قامعًا لها؛ إذ إنَّه لم يعطِها مجالًا للحديث عن أنفسها إلّا في مواضع قليلة. بمعنى أنَّ الرواية جاءت من منظوره الخاص، وهو من يملك مفاتيح السرد دون غيره.
بمعنى أنَّ الراوي هو الصوت الأكثر هيمنة على الرواية، وهو الذي يحدد مسارها، ويقدم شخوصها إلى القرّاء، فنحن عرفنا شخصيات الرواية من خلال (الراوي)، لا من خلال أفعالها، فقد وصف (إبراهيم) بأنّه رجل غير سوي، تعرض في طفولته إلى موقف اجتماعي، وبقي يلازمه حتّى أنَّه أصبح شابًا ورجلًا، قد شارف الأربعين عاما، و(عزيزة) تلك المرأة التي فرضت نفسها وشخصيتها على زوجها، وهكذا بالنسبة للشخصيات الأخرى التي شاركت بالأحداث.
فالرواية- إذاً- منذ بدايتها حتّى نهايتها تتحرك من خلال الراوي الذي "غدا حضوره قويًّا يوجه دفة السرد، ويصف وينقل خطاب الشخصيات في أغلب المرات التي تتوارى فيها المشاهد، أو يغيب العرض بين الشخصيات"؛ ولهذا طبع الحدث بالتشظي، فالراوي يوزع مسروده على شكل أجزاء، أو كما وصفه أحد الباحثين بـ (أسلوب التناوب)؛ فالصوت الأول، هو صوت الراوي الذي استحوذ على الروي تمامًا، حتّى في الحالات التي يفسح المجال إلى صوت آخر يبقى يتحكم به ويوجهه، ولذلك قمع كثيرًا من الأصوات التي كان من الممكن أن تتحدث عن نفسها.
فشخصية إبراهيم –إذاً- الشخصية الرئيسة التي تكفل الراوي بالحديث عنها، وتقديمها إلى القارئ من دون أن يدع المجال لها للحديث عن نفسها، فقد عرف المتلقي كلَّ شيء عنه من خلال صوت الراوي، فهو "فتى جنوبي، تعرض إلى موقف اجتماعي في حياته، مع إحدى فتيات مدينته، مما أثر على نفسيته، فجعله مريضا نفسيا، فضلًا عن المعاملة السيئة التي تلقاها من زوج أخته الذي كان يشعر أنه كان يقاسمه حبّ (عزيزة)، فغادر مدينة النهر؛ ليحطّ في بغداد".
والواقع أنَّ الصدفة التي ساقها الراوي لم تكن من القوة، بحيث تجعل إبراهيم مريضا نفسيا، فالواقعة قد تحدث كثيرًا في المجتمع، ومما زاد الأمر تعقيدًا أنَّ الراوي بقي ممسكا بخيط السرد، ولم يفسح المجال لإبراهيم نفسه أن يستعيد الحدث بطريقة التداعي أو الفلاش باك؛ لنعرف ذلك من خلال صوت إبراهيم نفسه لا صوت الراوي. وأنَّ الراوي كثيرا ما يفوت الفرصة على المتلقي معرفة الشخوص من خلال أفعالها، فهو مثلًا قد قدّم شخصية (نازك) على أنَّها امرأةٌ دلوعةٌ، أو كما عبر عنها بقوله: "تهمس إليه بصوت موسيقى". 
ص2 ويمكن أن نشير –هنا- إلى جمالية السرد والحوار الذي دار بين (إبراهيم) و(سيد كاظم) في السيارة التي أقلتهم من مرأب النهضة إلى مدينة النهر؛ إذ جعلنا نتفاعل معهم ومع ما جرى من خصام بين الشاب (المتبغدد) والرجل الذي شاطرهم الطريق.
أما المكان الذي جرت فيه أحداث هذه الرواية فهو- وعلى الرغم من أنّه يبدو واسعًا وممتدًا من جنوب العراق إلى بغداد فإنّه في الحقيقة تجده محدودًا أو محددًا في الشقة التي يسكنها (إبراهيم) في بغداد وبيت (عزيزة) في مدينة النهر، وقليلاً ما يخرج إلى المقهى في مدينة النهر أو السيارة في مشاهد قليلة، ولم يترك الكاتب خياله أن يسبح في مدينة النهر أكثر، فقد ظلت مدينة صغيرة لا تتجاوز أصوات محددة مرَّ ذكرُها، ومثل ذلك بقيت بغداد محصورة في عمارة (نازك) وتحديدًا الشقة التي يسكنها إبراهيم.
 عرفت رواية مرام صورا متعددةً للحياة التي يعيشها الفرد العراقي، فقد أراد أن يقول فيها أشياء كثيرة حدثت في هذه الحقة المأساوية؛ إذ نقل صوراً من القتل المجاني والانفجارات التي تبدد صباحات بغداد وانتشار الجماعات المسلحة ص9. ولم يكتفِ بنقل صور الخراب فقط؛ بل إنه أشار إلى الجهات التي تقف وراء هذه القتل، فهناك إشارتان تحيلان إلى ذلك أولهما الهمر الأميركي والأخرى اللباس الأسود، ولك ان تتخيل هاتين الجهتين، كما يراها الراوي.
وأخيراً: يمكن القول إنَّ (حسن البحار) في روايته (مرام) كتب نصاً روائياً قارب فيه قواعد الفن الروائي وتحولاته، على الرغم من تشظي ثيمتها، بحيث انه لم يدر في خلد القارئ أنَّ مرام (إبراهيم) هو زواجه من (نازك) ليس أبعد من ذلك.