كالين

ثقافة 2021/03/20
...

 كيت شوبان
 ترجمة جودت جالي
 
 
 
 
كانت الشمس قد اتجهت غربا بما يكفي لترسل ظلالا تغري المرء بالنوم فيها، وهكذا وسط حقل صغير، وفي ظل كدس تبن، استلقت فتاة لتنام. نامت طويلا وعميقا، حتى أيقظها شيء فجأة كما لو كان ضربة. فتحت عينيها وحدقت للحظة في السماء الصافية. تثاءبت وتمطت باسطة ساقيها الطويلتين وذراعيها السمراوين، بكسل، ثم نهضت، غير مهتمة لقطع التبن العالقة بشعرها الأسود، وصدارها الأحمر، وتنورتها الزرقاء القطنية التي لا تبلغ كاحليها المكشوفين. 
يقع الكوخ الخشبي الذي تسكنه مع أهلها خارج سياج الحقل، الذي كانت تنام فيه، فيما وراء أرض صغيرة مقطوعة الاشجار تستخدم لزراعة القطن، وما عدا ذلك غابة كثيفة تحيط بالمكان، باستثناء الامتداد الطويل الذي يدور حول سفح التل حيث تلتمع القضبان الفولاذية لسكك طريق تكساس والمحيط الهادئ.
حين برزت كالين من الظل رأت قطار مسافرين طويلاً يقف على مرمى البصر حيث لا بد أنهم توقفوا فجأة. كان ذلك التوقف المفاجئ هو الذي أيقظها، ولأن شيئا كهذا لم يسبق حدوثه على ما تذكر، فقد بحلقت دهشة لأول وهلة كالحمقاء. بدا كأن عطلا ما أصاب القاطرة وقد توجه بعض الذين نزلوا من الركاب الى الأمام ليحققوا في المشكلة، في حين جاء آخرون يتمشون باتجاه الكوخ حيث وقفت كالين تحدق تحت شجرة توت هرمة كثيرة العقد. أوقف أبوها بغله عند نهاية صف القطن، ووقف ليحدق أيضا، متكئا على محراثه.
كانت توجد سيدات ضمن المجموعة وقد سرن سيرا مرتبكا بجزماتهن عالية الكعوب فوق الأرض الوعرة رافعات تنوراتهن برقة متكلفة ويدورن المظلات فوق أكتافهن، ويضحكن ضحكا مبالغا فيه للأشياء المضحكة التي يقولها مرافقوهن الذكور. حاولن التكلم مع كالين ولكنهن لم يستطعن فهم الفرنسية المحلية التي أجابت بها. 
أخرج أحدهم، وهو شاب لطيف الوجه، من جيبه دفتر تخطيطات وأخذ يرسم الفتاة. ظلت دون حراك، ويداها خلفها، وعيناها الواسعتان تنظران اليه بجد. صدرت مناداة من القطار قبل أن ينتهي من تخطيطه وانصرف الجميع مسرعين. صرخ القطار ونفث نفثات كسلى في الهواء الساكن، وخلال لحظة أو لحظتين كان قد اختفى. 
لم تستطع كالين أن تشعر بمشاعرها نفسها بعد ذلك. نظرت باهتمام جديد وغريب الى قطارات المسافرين التي تمر بخفة آتيةً رائحةً أمام بصرها، كل يوم، وتتساءل من أين يأتي هؤلاء الناس والى أين يذهبون. لم يكن لدى أبويها ما يخبرانها به باستثناء "يأتون من بعيد"* ويذهبون "الى حيث لا يعلم إلا الله"*. 
سارت ذات يوم مع الخط أميالا لتتحدث مع عامل الإشارة العجوز الذي يقف تحت خزان الماء الكبير. نعم هو يعرف.. هؤلاء الناس يأتون من المدن الكبيرة في الشمال ذاهبين الى المدينة في الجنوب. هو يعرف كل شيء عن المدينة، إنها مكان واسع، وقد عاش فيها مرة، وشقيقته تعيش هناك الآن، وستكون في غاية الابتهاج لأن لديها فتاة رائعة مثل كالين لتساعدها في الطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال، ويعتقد أن كالين لا بد وأنها ستكسب مبلغا يصل الى خمسة دولارات شهريا في 
المدينة.
وهكذا ذهبت مرتدية تنورة قطنية جديدة والحذاء المخصص ليوم الأحد مع ورقة خربش فيها عامل الاشارة رسالة الى شقيقته حملتها كما تحمل شيئا مقدسا. كانت المرأة تسكن في بيت مجصص بستائر خضر وثلاث درجات خشبية تنزل الى ممشى القناة، وبدا لكالين أنه يوجد مئة بيت على هذا النمط في الشارع، من 
وراء سطوحها تلوح صواري السفن العالية وتتناهى دمدمة السوق الفرنسية في سكون الصباح.  
ارتبكت كالين لأول وهلة وكان عليها أن تكيف كل تصوراتها السابقة لتتلاءم مع الواقع. كانت شقيقةُ عامل الاشارة ربةَ عملٍ عطوفة ولطيفة، وبعد أسبوع أو أسبوعين أرادت أن تعرف شعور كالين اتجاه حياتها الجديدة. أحبت كالين هذه الحياة جدا فقد كان ممتعا أن تذهب عصر كل أحد للتمشي مع الأطفال تحت سقائف السُكّر الكبيرة المهيبة، أو الجلوس على بالات القطن المكبوسة لمراقبة البواخر الفخمة، والقوارب الجميلة، وزوارق القطر الصغيرة الهادرة التي تمخر مياه الميسسيبي، ويملأها غبطةً الذهابُ الى السوق الفرنسية حيث القصابون الغاسكونيون* الجميلون متلهفون لتقديم إطرائهم مع باقات الأحد للفتاة الأكادية* الحسناء وأن يلقوا بحفنات من البضاعة في سلتها كهدايا.
عندما سألتها المرأة بعد أسبوع آخر إن كانت لا تزال سعيدة قالت إنها غير متأكدة، وفي مرة أخرى حين سألت كالين استدارت الفتاة وذهبت لتجلس خلف الصهريج الكبير الأصفر لتبكي من دون أن يلاحظها أحد، لأنها تعرف الآن بأنه ليس المدينة العظيمة وحشودها من الناس ما سعت اليه بلهفة بل الشاب لطيف الوجه الذي رسم صورتها ذلك اليوم تحت شجرة التوت.
.........
 
•العبارتان في الأصل باللغة الفرنسية/ *الغاسكونيون والأكاديون، نسبة الى مناطق، من أحفاد الفرنسيين الذي قدموا الى أميركا قديما وسكنوا فيها/كيت شوبان 
(1850 - 1904) كاتبة قصص وروايات أميركية نسوية.