مقامات بديع الزمان الهمذاني (بالفرنسيَّة) مع رسوم الواسطي ومقدمة اندريه ميكيل

ثقافة 2021/03/23
...

  د. حسين الهنداوي
كان الشعر هو المجال المفتوح أمام من يسعى الى خوض عالم الإبداع في المشرق في تلك الفترة من مطلع الألفية الأولى الميلادية المتزامنة مع النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. أما في النثر، فالحقل شاسع لكنه مليء بالمؤلفات الواسعة والغزيرة. فإلى جانب المؤلفات المختصة بالدين، كان غيرها مختصا بالتاريخ العالمي أو المحلي والسير والجغرافيا ومشكلات علم الكلام والنحو والخطابة وغيرها بما فيه الموسوعات التي غطت مجالات الثقافة كافة، ما جعل عسيرا تجاوز اساليبها في التعبير وابتكار سواها للتواصل مع العالم من دون قيود التقاليد الرتيبة. ومن هنا يكون ابتكار المقامات في تلك الفترة، كنوع أدبي جديد يمثل اضافة اصيلة الى الابداع الأدبي العربي.
بهذا الاستنتاج يفتتح المستشرق الفرنسي الكبير أندريه ميكيل André Miquel  مقدمته للطبعة الفرنسية الجديدة لكتاب (المقامات) لبديع الزمان الهمذاني التي قام بمراجعتها والصادرة مؤخرا عن (منشورات اورينتOrient editions) ) بدعم من المكتبة الوطنية الفرنسية، والمزينة برسوم خاصة لرائد الرسم العربي الفنان العراقي الشهير يحيى الواسطي الذي ولد في مدينة واسط وعاش ببغداد في القرن الثالث عشر. 
 وتتميز مقامات الهمذاني بنجاحها بتقديم صورة شاملة وصادقة عن مجتمعات المشرق العربي الاسلامي في القرون الوسطى بكل سماتها وتناقضاتها. وهي عبارة عن حوارات يديرها مشرد عبثي، ساخر وماجن أحيانا، ولكنه حكيم في الوقت نفسه، يأخذ فيها دور الراوي الذي يختفي خلفه او يستخدمه مؤلف هذه القصص الرائعة اللاذعة وهو الكاتب العربي الموهوب بديع الزمان الهمذاني الذي نال شهرة واسعة لاسلوبه الفريد في نقل الحكمة والمعرفة عبر قصص سهلة الفهم متخيلة ونقدية ضمنا، وعبر طريقة أدبية جديدة مبتكرة تحول السرد النثري الى أداة لايصال الأفكار الأدبية والأخلاقية والاجتماعية والدينية وحتى الرسائل الفلسفية بأسلوب فني جذاب يتميز بجزالة اللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب، ويأخذ صيغة قصصية خفيفة وموسيقية الجناس والطباق تقدم للجمهور بإطار ممسرح يعكس التطور الثقافي والسياسي والاجتماعي لتلك الفترة، في حين توحي أسماء المقامات بأحوال البلاد المعنية كالمقامة الكوفية، والمقامة الدمشقية، والمقامة البغدادية والمقامة الصنعانية.
واستخدم الهمذاني في مقاماته بطلين متخيلين وهما عيسى بن هشام وأبو الفتح الإسكندري، إذ جعل من عيسى بن هشام راوياً للمقامات وجعل من الإسكندري بطلاً مغامراً لها، وبالرغم من كونه البطل إلا أنّ المؤلف لم يحرص على إظهار الاسكندري في كلّ المقامات التي يتميز أسلوبها بالطابع البسيط والطريف والمتحرر من القيود وحتى الترفيهي مع الحرص على تضمينها بعض التوجهات النقدية المعتدلة والقيم والمواقف الفكرية او الأخلاقية المحورية المستهدفة، مع توظيف مكثف للشعر والفكاهة والأمثال والمعلومات المنتقاة والمستفيدة من التراثين العربي والفارسي.
وبديع الزمان الهمذاني، أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى التغلبي، (969 /1007 م)، شاعر وأديب ولغوي من أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت مدينة همذان في ايران وفيها ولد فنسب إليها وتلقى دراسته الاولى فيها، وقد تمكن من امتلاك الثقافتين العربية والفارسية وتضلعه في آدابهما، وله في المقامات أكثر من أربعمئة مقامة (لم يبق منها سوى اثنتين وخمسين). وتنقل بديع الزمان بين مدن أصفهان وجرجان ونيسابور وسجستان وغزنة وأخيرا مدينة هرات حيث توفي ولم يكن قد بلغ الأربعين من عمره.
ويعد كتاب المقامات أشهر مؤلفات بديع الزمان الهمذاني الذي له الفضل في وضع أسس هذا الفن وفتح بابه واسعاً تبعه فيه أدباء كثيرون أشهرهم أبو محمد القاسم الحريري الذي ضم كتابه "مقامات الحريري" كثيرا من الرسوم التي رسمها له الواسطي مؤسّس تلك المدرسة الفنية التي اختصّت بزخرفة الكتب وتصوير المخطوطات، اذ تميز أسلوبه الجميل بالرسم والزخرفة مُؤسسا بذلك لمرحلةٍ جديدةٍ في الفن الإسلامي بفضل صوره ورسوماته التي تجعل مشاهد الحياة اليومية نابضة بالحيوية والجمال فضلا عن نقل حقائق الحياة اليومية التي عاصرها كما ابتدع الواسطي ما يُعرف بنسق الصور المتزامنة، وذلك من خلال الجمع بين عدة مشاهد في صورةٍ واحدةٍ، من خلال تقسيم هذا المشهد إلى عدة أقسام.
والمقامات الهمذانية مجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم جمعت بين النثر والشعر بطلها رجل وهمي يدعى أبو الفتح الإسكندري وعرف بخداعه ومغامراته وفصاحته وقدرته على قرض الشعر وحسن تخلصه من المآزق، إلى جانب أنه شخصية فكاهية نشطة تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الأعماق. ويروي مغامرات هذه الشخصية التي تثير العجب وتبعث الإعجاب رجل وهمي يدعى عيسى بن هشام.
وتنطوي المقامات على ضروب من الثقافة إذ تقدم لنا أخباراً عن الشعراء مرة او معلومات ذات صلة بتاريخ الأدب والنقد الأدبي او حجاجاً في المذاهب الدينية والكلامية او قصص مجلس أدب وأنس ومتعة او حوارات فكاهية، ما دفع البعض الى اعتبار مقامات الهمذاني بمثابة نواة المسرحية العربية الفكاهية، على اساس انه خلد فيها أوصافاً للطباع الإنسانية جعلتها تحفة أدبية رائعة بأسلوبها ومضمونها وملحها الطريفة التي تبعث على الابتسام والمرح، وتدعو إلى الصدق والشهامة ومكارم الأخلاق التي أراد مؤلفها إظهار قيمتها بوصف ما يناقضها.
وهو ما حرص على تأكيده في مقدمته للكتاب المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل الذي أغنى المكتبة الفرنسية بعشرات الدراسات الرصينة والكتابات الأصيلة عن الثقافة العربية الاسلامية فضلا عن الترجمات الأدبية والفكرية، إذ قدم خلال أربعين عاماً من النشر نحو أربعين مؤلَفا حول الإسلام وثقافتِه، كما ألـَّف كتباً مهمة، منها قصصُ الحبِ في الأدبِ العربي، والحبُ عند العرب وترجم ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وغيرها من روائعِ الأدبِ العربي حتى عد أكبر المختصين والمهتمين عالمياً بالأدب العربي، و"آخر العمالقة المستعربين الكبار الذي أثرى بترجماته المكتبة العربية والفرنسية، وأصبحنا نحن طلابه في مراكز متقدمة في دولنا". كما قال عنه الأديب الجزائري، الطيب العروسي.
وكان أندريه ميكيل المولود في سنة 1929، قد درس العربية على يد المستشرق الفرنسي الشهير بلاشير، وعمل في الخمسينات عقب تخرجه في دمشق وبيروت وإثيوبيا، عين سنة 1961 مستشاراً ثقافياً لفرنسا في مصر، واطلع على روايات نجيب محفوظ وغيره من الأدباء المصريين والعرب المعاصرين، ثم عمل بالتدريس في الجامعات في فرنسا منذ سنة 1968، وشغل منصب مدير معهد لغات الشرق والهند وشمال افريقيا بجامعة السوربون الجديدة، ثم انتخب أستاذاً لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس سنة 1975، وقدم للمكتبة العالمية أكثر من مئة وخمس وثمانين دراسة في التأليف والترجمة، وترجم عن العربية «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، وكتاب المقدسي «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ومختارات من الشعر العربي. 
لكن أهم أعماله هو كتابُه الموسوعي الشهير عن «جغرافية دار الإسلام البشرية»، وكتابه "الإسلام 
وحضارته".