كذلك النقد صناعة!

ثقافة 2021/03/23
...

د. أحمد الزبيدي 
 
يرى الجابري أن العقل العربي يتوزع بين نظم عقلية مختلفة: العقل البياني، والعقل العرفاني، والعقل البرهاني.. وأزمة الثقافة العربية تتمثل في الصراع والاحتدام والتداخل والتصادم بين هذه النظم الفكرية، وهي تتجاذب وتتنافر على وفق معطيات إيديولوجية أكثر مما هي معرفية.
ولا شك في أن الشعر العربي، كتشكل جمالي ليست بمنعزل عن تلك الأنساق الفكرية والثقافية التي تبلورت منها المرجعيات الأساسية للثقافة العربية.والعمود الشعري بوصفه خلاصة القوانين الشعرية، قد تبلورت صورته عبر النظم الثقافية العربية بوصفها مرجعيات منتجة للفكر؛ ولكن أيّ الأنظمة أقرب لصناعة العمود؟ وكيف تبلورت المفاهيم النقدية والقوانين الشعرية؟  
ولا شك في أن مرحلة التدوين كانت برعاية (السلطة) أي (العقل البياني) فجاءت المدونات النقدية تحت غطائه؛ لأن العقل البياني هو المؤسسة المنتجة لـ (التعاليم النقدية) التي أصبحت البرزخ الفاصل بين الشاعر المجاز رسميا من المؤسسة النقدية وبين المتمرد المطرود من مدينة العمود، بتعبير آخر أن التشكلات النقدية العربية القديمة هي تشكلات  تتخذ من التشكل المعرفي الثبوتي وجها لفرض سطوتها المعيارية، وهذا لا يعني أن النقد العربي القديم يفتقر للمفاهيم العلمية، بل هو نقد رصين ومؤسس ولكن يميل إلى الاستدلالية أكثر منالاستقرائية، وعليه فـ(العقل الهرمسي) لايمكن أن يُسْمَح له بإنتاج القوانين، لأنه يتعارض مع (العقل البياني)، فالجاحظ قد اعترف أنه لم يظفر بالنقد إلا عند (الأدباء الكتاب) وهل الأدباء الكتاب غير (العقل البياني؟)!، ورغم أن اختلاف المتصوفة مع المؤسسة الرسمية اختلاف معرفي ولكن تحول إلى اختلاف إيديولوجي، وهذا ماجعلهم يفقدون المشاركة في صناعة النقدوقوانين الشعر، رغم ما تزخر به نصوصهم من كنوز جمالية راقية..  
 والثقافة العربية المعاصرة (أعني الشعرية) هي ثقافة متواصلة مع النظام المعرفي العربي القديم، ومن هنا غابت النتاجات النظرية المعرفية، وهيمنت الثقافة الإيديولوجية  فما زال (العمود) هو الثابت الذي يحدد من هو (المتحرك) وكل حركة تحولية يجب أن تكون خارجة من عباءة العقل البياني، وعليه فحدود التجاوز هي حدود جزئية وليست كلية ثورية، ولا أظن أن الحداثة تنتصر بالجزئي، وتحت وصاية الفقه النقدي القديم.. كيف لي أن اقتنع بمصطلح (قصيدة التفعيلة) ليكون دلالة على القصيدة الحديثة؟ أو حتى مصطلح (الشعر الحر) فلِمَ اسمّيه حرّا؟، ومن الذي قيّده؟، أكانت السنوات الطوال التي سبقت الحر سنوات قيد وصرامة قانونية وثوابت سلطوية؟، وهل مصطلح (قصيدة النثر) تقابل دلالي وجدل نقدي متحرك يرجع إلى أصل ثابت هو (القصيدة العمودية)؟.