ماذا يمكن أن تعلّمنا عزلة الناسكين الأوائل عن الوحدة

ثقافة 2021/03/23
...

  كيم هاينز إيتزن
  ترجمة: جمال جمعة
الحديث عن زمانية الأسطورة قليل التداول وحضوره نادر في الدراسات البحثية والنقدية، لهذا المصطلح حديث اخترق الدراسات البحثية والميثولوجية التي أنجزها الآخر وتعامل مع الأسطورة بوصفها ذات زمان ومكان مطلق، وألمح ليفي شتراوس لذلك في بدايات اشتغاله، لكن الدرس الجديد والمناهج الحديثة، استطاعت وتحديداً ما قدمه رولان بارت في كتابه المهم "الأسطورة اليوم" وبعض الاشارات الجوهرية التي سجلها شتراوس. تبدو ملاحظات بارت واضحة عن تحديدات الأسطورة بالزمن غير الطويل مثلما اشار لذلك حمادي المسعودي في كتابه "متخيل النصوص المقدسة في التراث العربي الاسلامي"، وقال بأن الزمن محدد وقصير، ومثلما اشار الطبري الى ازمنة قصيرة في الخلق، اما الزمان فهو التاريخ الطويل والسرديات الكبرى. 
 
عالم اليوم، يبدو أن الشعور بالوحدة قد وصل إلى مستويات وبائية. دراسات لا حصر لها سلّطت الضوء على التأثير الخطير والسلبي للوَحدة على صحتنا، وعلى شعورنا بالسعادة، وقدرتنا على الازدهار في عالم تزداد فيه الفوضى باضطراد. في الآونة الأخيرة، أدى إلحاح المشكلة في المملكة المتحدة إلى تعيين وزير للوحدة. هنا في الولايات المتحدة، الشتاء هو وقت الوحدة بشكل خاص للأميركيين المسنين.
لكن الوحدة (الشعور بالوحدة) والعزلة (أن تكون وحيداً) ليسا بالشيء نفسه. وثمة دروس يمكن تعلمها من أولئك الذين وجدوا أن العزلة ضرورية للإلهام.
 
في مدح العزلة
لطالما تمت الإشادة بالعزلة (أن تكون وحيدًا) كشرط ضروري للإبداع. الكاتبة فرجينيا وولف قدمت في كتابها "غرفة تخص المرء وحده"، تأملاً موسعًا عن حاجة الكاتب إلى العزلة. وكذلك فعل العديد من الشعراء. في كتاباتهما، كانت ماي سارتون "في وحدته لا يكون المرء وحيدًا أبدًا"، وويليام ووردزوورث "نعمة العزلة"، بليغين بشكل خاص في مدحهما للعزلة. حتى أن الشاعرة ماريان مور جادلت بأن "علاج الوحدة هو العزلة".
تاريخ النسّاك الدينيين يُظهر أنه كان ثمة أفراد يبحثون منذ وقت طويل عن العزلة في أماكن نائية وساكنة، وهنالك العديد من الدروس التي يمكن تعلمها منهم. التاريخ الإِتِيمُولُوجِيّ "الاشتقاقي" لكلمة "ناسك" يقول بنفسه: إن مفردة "ناسك" Hermit تنحدر من المفردة اليونانية القديمة، "eremos"، التي تعني مكانًا مقفرًا ومهجورًا وحالة الوحدة على حد سواء.
يتواجد الناسكون في العديد من التقاليد الدينية الرئيسة في العالم: أشخاص آثروا العزلة المؤقتة أو الدائمة في أماكن نائية ومعزولة، مثل الجبال، والكهوف، والصحارى. هذه المواضع كثيرًا ما يتم وصفها على أنها مواقع للتجلّي والتحوّل.
 
التوق الرومانسي للوحدة
كان ظهور النسّاك في بواكير المسيحية مدهشًا بشكل خاص.
عندما قرأ المسيحيون الأوائل كتابهم المقدس، وجدوا أن كلمة eremos تشير إلى أماكن لأحداث مهمة: قصص تيه بني اسرائيل في البريّة لأربعين عامًا، وكيف مضى يسوع إلى "مكانٍ قَفرٍ" ليصلّي، أو كيف جرّبه الشيطان في الصحراء. هذه القصص استحضرت صورًا لطبيعةٍ نائية لم يزرها معظم المسيحيين على الإطلاق.
لكن في القرن الرابع، ظهرت حركة رهبانية في مصر، إذ بدأ بعض المسيحيين في الانسحاب بشكل دائم إلى "الصحراء". كانت قسوة الطبيعة الجرداء والقاحلة ملائمة للمسيحيين التواقين لانتهاج حياة زاهدة.
ثمة ثيمة مشتركة في القصص عن نسّاك الصحراء المسيحيين الأوائل، وهي الرغبة في الانصراف عن مشاغل الحياة الحضرية والعيش في وجود عابر في عزلة من أجل تحقيق القداسة.
أكثر النسّاك المسيحيين شهرة هو أنطونيوس الذي روى قصته أثناسيوس أسقف الإسكندرية في القرن الرابع. وكما يروي أثناسيوس، فإن أنطونيوس سمع ذات يوم مقطعًا من إنجيل متَّى في كنيسته:
"إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي". (مَتَّى19:21)
لقد شعر أن المقطع قد تحدث إليه مباشرة، فباع أنطونيوس ممتلكاته وغادر إلى الصحراء. 
قصة انسحاب أنطونيوس إلى الصحراء أضحت قدوة للمسيحيين اللاحقين المتلهفين إلى السعي إلى العزلة والتأمل. يقول أثناسيوس إنه على الرغم من سعيه للعزلة، فإن الصحراء "أضحت مدينة" من قبل زوار صومعة أنطونيوس والرهبان الذين أرادوا الاقتداء به. اضطر أنطونيوس إلى الانتقال إلى مناطق نائية أبعد فأبعد للعثور على العزلة التي كان ينشدها.
 
سعادة الوحدة
مع مرور الوقت تطورت أشكال الرهبنة التي احتضنت كلّا من الانفرادي والجماعي: نشأت أديرة حول مجتمعات الرهبان في جبال وأودية مصر وسيناء وفلسطين. الكهوف القريبة كانت بمثابة صوامع لهم.
كانت طريقة الحياة هذه متوافقة مع ما يؤمن به العديد من المسيحيين: أن المعاناة ضرورية للخلاص. وأشادوا بالنسّاك الذين نبذوا رفاهية المدن والحياة الجماعية. كان النسّاك، بالنسبة إليهم، أنموذجًا للقداسة، ومن المفارقة، للسعادة أيضاً.
تحولت الوحدة إلى سعادة. وصف أثانسيوس وجه أنطونيوس بأنه "متلألئ" بعد فترة طويلة من العزلة.
قد تبدو حياة النساك بعيدة كل البعد عن حياتنا المعاصرة المعقدة. لكن الجاذبية الرومانسية لحياة غير مرهونة وغير مشتتة لم تتلاش. يقبل الناسكون في القرن الحادي والعشرين من جميع مسالك الحياة، الدينية والعلمانية، لكنهم يتشاركون مع أولئك من الماضي بالتوق إلى العزلة الهادئة 
والبساطة.
هل يمكن لحكمة الفنانين، والشعراء، والنسّاك الدينيين، أن توفر السلوى في زمن الوحدة اليوم؟.
The Conversation