طغراء الزوال

ثقافة 2021/03/24
...

لؤي حمزة عباس
 
من بين جميع النوازل التي أحاقت بالإنسان، على امتداد تاريخه الطويل، تظل نازلة حرق الكتب أكثر النوازل تحدياً للعقل، وهي تتوجّه بقسوة ألسنتها لالتهام ما أنجز على مرّ القرون، بعد كدحٍ مضنٍ، وتأمل متصل، وتجريب، حتى إذا التقطت النار أطراف الفكرة، أحالت المراد رماداً في انتقالها من عَرَض القرطاس إلى جوهر العقل، فهل تكون النار طغراء الزوال على أطراس الوجود؟، وهل تختصر، حالما تشبُّ في ليل مكتبة، تاريخ البشرية في توهج أعمى لا يُبصر ما يخلّف من رماد؟، وهل يكون آخر حريق بين حرائق مكتبات العالم، آخر الحرائق قاطبة، أم أن لحرائق الكتب دائرة مستمرة، لا بدء لها ولا انتهاء، مع أول قدح في زناد العقل ولدت، ومع آخر كلمة على الأرض، تخبو وتموت، فهي بعض من فعل العقل وصبوته إذ يتجلى نوراً خالصاً ويقيّد في قرطاس، فيحنُّ كائن النار إلى النار، لحظة تقييده، وتهيم الكلمة متطلعةً لانفلاتها من أسر الحرف إلى اكتمال الدائرة التي تنشغل باستعار لهيبها، أكثر مما تنصت لمواقيت أزمانها، وهي تشكّل بين رمل ولهب..
يقول (غاستون باشلار) مفكّراً في ماضي الشموع: إن اللهب في حقيقته ساعة رملية، إلا أنه يجري نحو الأعلى، ولأنه أكثر خفةً من الرمل يتهاوى نحو الأسفل، فإن اللهب سيشيد كما لو أن للزمن، على الدوام، شيئاً 
ما يصنعه.
في معرض إجابته عن أحد الأسئلة الأساسية حول لماذا استمر في تبجل الكتب؟ يقص بورخس، رجل المتاهات والأحلام، أحد الأحلام التي تتلبسه وتتكرّر دائماً، وهو يعيش تفاصيل حلم بالغ الغرابة، (يرى) فيه مكتبة عظيمة تحترق، من جهته يعتقد بورخس اليقظة أنها مكتبة الإسكندرية الشهيرة بمجلداتها التي لا حصر لها تلتهمها النيران، وفي بحثه عما يحمل هذا الحلم من معنى سيكتب، احتمالاً، أن بورخس مدين لقرّائه بكتاب عن تاريخ الكتب، ليتحدّث بعدها عن بداية اكتشافه لعالم الكتب، على نحو عشوائي، ثم يتصل حديثه بدونكيخوته، وبيثاغوراس، ونيتشه، وشوبنهور، وسقراط، وجورجياس، والمعلمين الشفويين العظام، بوذا والمسيح ومحمد، في محاولة لنقض الفكرة ومحو الحلم، فإذا كان بالإمكان حرق الكتب فإن من غير الممكن أن تختفي، ليعود عبر إشارة  برناردشو إلى مكتبة الإسكندرية مرّة أخرى، بعيداً عن نار الحلم الذي لا يتكرر، يصفها بأنها ذاكرة للبشرية، ويضيف بأنها مخيلة البشرية، فإذا كانت الذاكرة مهددة بخلل ما، نسيان أو فقدان أو ضعف أو التباس، فإن المخيلة تتحرّك حرّة في الزمان والمكان، تبتكر وتنشئ وتقود، والكتب تصنع بهما معاً: الذاكرة والمخيلة، الحرية والتقييد، تتذكر يعني أن تقيد العالم، على نحو ما، في نظام، على الرغم من الألعاب الحرّة وغير المحدّدة للذاكرة، لذا، يؤكد بورخس، إذا تحتم أن تختفي الكتب فإن التاريخ سيختفي، وكذلك البشر!.
هل تعمل النار على قول ذلك أيضاً، في اللحظة التي تلتهم فيها أطراف الكتب؟.