كريم سعدون: الفنان منتجٌ للأسئلة ولا يمتلك أدوات لوضع الإجابات

ثقافة 2021/03/24
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
في كل مرّة نحاور فيها الفنان العراقي كريم سعدون، يسحبنا لمناطق جديدة، لاسيما صراعه كفنان عراقي يعيش في السويد منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، فهذا الفنان الذي عرف كرسام كاريكاتير في مجلة مجلتي والمزمار، وعمل في عدد من المجلات الأخرى، غير أن ما يلفت انتباهنا له دائماً أنه متجدد مع كل مرحلة في حياته، فمع كل معرض جديد يخرج لنا بابتكارات فنية مختلفة عن الاشتغالات السابقة:
* كاريكاتير، لوحة، نحت، تركيب، مواد مختلفة... أين تجد نفسك؟ وما الذي لديك لتقدمه، بعد تجارب كثيرة، في المستقبل؟
- أنا لا أجد حرجاً من مزج أنواع فنية متعددة في عمل واحد، وأشعر بأنني أجد نفسي فيه، فلا أركن لتجربة واحدة، لذلك تجدني أدخل في تجربة جديدة حالما أشعر بأنَّ ما لدي استنفد في تجربة سابقة. أنا دائم البحث عن طرائق تعبير جديدة، ففي معرضي الأخير الذي أقيم في صالة الفن في مدينة أرلوف في جنوب السويد، عرضت عملا تركيبياً رولات الورق يمتد لمسافة طويلة نسبياً تقترب من الألف متر وفيه جهد في اللون والطباعة والتعتيق كما في تشكيلة العرض، وهذه التجربة أمدتني بقوة على تنفيذ عمل أشعر بأنه غير تقليدي. وقد تكون التجربة المقبلة تختلف كثيراً عنها.
* كيف يعبّر الفنان عن الإشكاليات التي يواجهها هذا العالم، لاسيّما ما يتعلّق بالمشاكل النفسية التي نعيشها، اغتراب داخل وطنك وخارجه، هموم تتكاتف لتغير شكل حياتنا، مشاكل لا تنتهي إلا وتبدأ أخرى. أين روح الفنان من كل ذلك؟
- أعتقد أَّن الفنان منتج للأسئلة ولا يمتلك أدوات لوضع الإجابات فهو يسهم في خلق أرضية ملائمة للمعالجة لا المعالجة ذاتها، ويمتلك مديات رؤية تختلف عن الآخر المنغمس في عالمه، لا أخفيك أنني كنت أعيش اغتراباً في داخل الوطن الجميل بين قيم فنية مترسّخة تنظر للنتاج الفني بوصفه درساً ومتاريس تمنع كل جديد او أيّة إمكانية للتواصل مع الآخر وبين رغبة كبيرة في الانفلات والتحليق بعيداً، لم يعد مما نملك من وسائل تقليدية للتعبير تفي بما نشعر بامتلاكه من طاقات تعبير نحلم بها، وفي الفن لا يمكن أن نتناسى خيط التواصل في عملية إنتاج الفن بين الداخل والخارج فالجميع لديهم الخامات ذاتها وقدرة الفنان في الإنتاج تكاد تكون واحدة، وهنا أتحدث عنا كجيل عاش زمناً ملتبساً، فليس غريباً أن يستمر الفنان في إنتاجه حالما يعبر الحدود إلى بيئات إنتاج فني أخرى، وإذا سلمنا أنَّ الفن منتج أوروبي بامتياز، فإنني أسمح لنفسي القول إنَّ الفنان العراقي تحديداً في هجرته إلى أوروبا لم يعانِ من صعوبات في استخدام أدواته ووجد أمامه كل ما يريد توفره بسهولة من مواد وأدوات.
* إذ وجد الفنان العراقي كل هذا أمامه، فإين تكمن المعاناة حسب قولك؟
- تكمن في عدم مغادرة مفهوم التفوّق لدينا، فالكثير من الفنانين ركنوا إلى ما تعلّموه سابقاً وأصبحوا حرّاساً أمناء عليه وبدؤوا يحصدون ألم سوء الفهم من الآخر التي جيّرت فيما بعد إلى اتهامه بعدم تقبّل الوافدين، غير أنَّ القلة التي تمتلك الرغبة في تجديد النتاج الفني وخطابه والاستفادة مما موجود، شكّل دافعاً للانغماس بمساحة الحرية المتوفرة وفهم عملية إنتاج الفن وتلقيه وتذويب سنوات العزلة القسرية التي عانيناها سابقاً، وبرغم أنَّ العملية لا تخلو من صعوبات كبيرة  وهنا لا اتحدت بمثالية عن الواقع الجديد لأن القواعد المترسخة التي تحكم علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية هي نتاج زمن طويل وما لدينا من سنوات متبقية قد لا تكفي لهضمها بشكل جيد والاندماج بها، فتشعر من خلال الاستمرار بالنظر إليك كونك مختلفاً باغتراب جديد، وهذا الإحساس يوقعنا في دوامه من الحنين والركون إلى الذاكرة المتقدة بالرغبة في ماضٍ نعتقد أنه حل.
* وما الذي نتج عن ذلك؟
- سيستمر الإحساس بكونك مختلفا وسنقتنع بذلك ونؤسس لمشكل مزدوج هو الرغبة في العيش الجديد ومنح الوطن مساحة تكاد تكون كلية من التواصل معه حتى في البعد، وكفنان سيصبح هم الوطن المتزايد المادة الرئيسة في النتاج الفني بوصفها مشكلة إنسانية عامة هذه المرة، وأنا شخصياً منغمس بشكل كلي في وضع تساؤلاتي المتعددة عن العراقي كوجود مهدد ويكاد يكون مقتصراً على ذلك إلا في حدود ما يبثه الواقع الجديد من مفردات تخرج في بعض الأعمال على شكل تمثّلات حلم أجيرها أيضاً لصالحي.
وتظل مشكلة المتلقي الجديد بالنسبة لي حقيقية، فرغبتي في إنتاج خطاب يسهل وصوله إليه تصطدم بمتلقٍّ مختلف يمتلك أدوات تعينه على تلقيه، وهذه الإشكالية لا تحل إلا في التوصل لفهم قاموسه الفني ليكون نتاجي الفني قابلا للتواصل معه، وهذا يضيف إلى ما لدي من إشكالات أخرى.
* قلت إن "الغربة قرار خاطئ يرتكبه الإنسان"، ما الذي أخذته منك حياتك في السويد؟ وما الذي قدمته لك أيضا؟
- ما قلته صحيح وهنا أؤكده لأنَّ الانتقال من مكان لآخر، هو انقطاع عن تاريخ كامل من العلاقات والأفكار والمفاهيم التي نشترك بها مع الاخرين وهو محاولة لتأسيس وجود آخر غير الذي كان، إذ إنَّ المكان الجديد يمتلك أشياء أخرى يجب أن أشترك بها مع آخر مختلف عني وهو أمر يتطلّب الكثير من الجهد لتسهيل فرصة التواصل معه وهذا في أحد وجوهه ذوبان فيه، برغم التأكيدات والجهود المبذولة في تسهيل فرص وجود الآخر بكل اختلافاته معه.
عندما وصلت السويد كنت محملا بإرث كامل من الأفكار والمفاهيم والعلامات التي تخص إنتاج العمل الفني ووظيفته، الحياة هنا تسير بنظام مختلف وتوفر كل شيء يمكن الاستفادة منه، وبالنسبة لي انشغلت بكيفية التواصل مع المتلقي، لاسيّما أن ما أضعه من علامات في اللوحة قد لا يعطي الدلالة نفسها، ولكن في المحلة يجب أن أتلاءم مع الأمر.
* وهل استطعت التكيّف فنيا مع كل هذه التحوّلات؟
- بالنسبة للفنان، فإنَّ التكيّف فيه صعوبة كبيرة ومخاطرة، فالشعور بالغربة والاختلاف يمنح أرضية لتساؤلات عن الهوية وجدوى الوجود الجديد، والحقيقة أنني كعامل في الحقل الثقافي أصارع من أجل الشعور ببقاء هويّتي العراقية التي تمدني بالاستقرار بالوقت نفسه الذي لا أتمكن فيه من العودة بسهولة إلى الوطن الأم.