الذاكرة الحيّة

ثقافة 2021/03/24
...

  حبيب السامر
تسحرني المقولات الأدبية المختصرة، والاقتباسات اللافتة لأدباء وكتاب كبار وشخصيات معرفية، إذ حرصت منذ بواكير تفتحتنا على عوالم القراءة والكتابة على تدوينها في دفتر، مفكرة، أو ربما في أوراق صغيرة كانت تلازمنا، وللآن كلما صادفت قولا لافتا، أو بيت شعر مهماً يصعقني دونته في الحال.                                                                          
نسميه (دفتر الملاحظات) لكن لا أعرف لماذا نفضله بحجم مناسب نتمكن من حمله في (الجيب)، ربما، لخفته وسهولة حمله، ويستوعب التدوينات السريعة، وتثبيت الملاحظات الآنية. والقاص الراحل محمود عبدالوهاب يسميه (الدفتر الصغير) الذي رافقه سنوات الدراسة، يدوِّن فيه أفكار قصصه وبعض نتاجات الأدباء العظام، كان يتحدث عن دفتره وكأنه الجسد المتماهي معه في حياته، وكيف اقتناه من شارع المتنبي حتى وصل به الحال الى مغازلة دفتره الذي سيتباهى به بين دفاتره الأخرى، وهناك العديد من الشخصيات الأدبية المهمة كانت ولاتزال تستخدم دفترا يرافقهم في تجوالهم، ينام هادئا قرب وسائدهم، يشاركهم أحلامهم، كاتم أسرار الأدباء والمثقفين حتى لحظة إطلاق مشروعهم الابداعي، بعضهم يستخدم أوراقا مخططة، بيضاء، وهناك من يتلذذ في صرير قلم الحبر على الورق الأسمر، وأعرف من لا يجد متعة إلا بالكتابة في سجل كبير أو تدوين ملاحظات بالقلم الرصاص أو الجاف على الكتاب المقروء.
وظلّت هذه الطريقة مستمرة معي حتى لحظة كتابة هذا المقال، ويشاركني أغلب الأصدقاء بذلك، لكن بفعل تسارع التطورات في عالم التقنيات الجديدة، والاكتشافات المتسارعة، عوّضَتْ بعض الشيء أيقونة (الملاحظات) في الموبايل وسهولة النسخ واللصق في الكومبيوتر عنه، ويدفعك ذلك الى تخصيص فولدر بأيقونة صفراء وعنونة (تحت اليد)، لكنه بالنتيجة استمر دفتر الملاحظات معنا في أوقات ما..
 من بين ما دوَّنته إضاءة دوستويفسكي (لم يعد في العُمر متسع لمزيد من الأشخاص الخطأ)، توقفت كثيرا أمام هذه العبارة التي اختصرت الكثير من العلاقات في زمننا، وما يطفو منها في حياتنا وتجاربنا وتدخل وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة لتشكل واحدة من نوافذها.  
هناك تدوينات مشرقة في حياة الناس المميزين من الأسماء اللامعة، التي شكلت خزينا معرفيا لقراءاتنا المتعددة في مختلف فنون الثقافة وأنماطها الفاعلة، لتثير في دواخلنا العديد من الأسئلة، لماذا اخترت هذه المقولة من دون غيرها، ولهذا الكاتب من دون غيره، حتما العبارات الوامضة تتناغم مع محسوساتنا الداخلية، وتترجم حركة أفكارنا.
ضمن تدويناتنا العديدة قول ريلكه: * كلما لا أبتغي سوى الغناء/ أُمْنَح شوف الحياة!
* يا للبطء الذي يخترق النهار/ كأنه (يوم) دفن للأحلام...
ربما ندوِّن ما يترجم حيواتنا، أو المساحة المحيطة بنا، مصائرنا المجهولة، أفكارنا المشتتة وغير الواضحة بحجم ما يحيط بنا من تداعيات مرتبكة، تجعل نص لوركا القصير جدا، معبراً لرؤية واضحة في دواخلنا، لذلك نلجأ الى تدوينها، هذا النص من دون غيره..  
أحيانا ندوِّن فكرة، أو ومضة، معلومة مهمة عابرة تصادفنا في زحمة حياتنا، لكن الغور عميقا في كتب قرأناها تأخذ حيز اللذة في التدوين، ومع مرور الزمن حين نقلب هذا الدفتر أو نفتح حواسيبنا اللوحية، ونتصفح بأصابعنا شاشة الموبايل لنستعرض الالتقاطات، الأفكار، المقولات الأدبية، نصوصنا المنسية، تواريخ مبهمة لا نعرف ما قصدناه ذات يوم في تدوينها، أحيانا نجد كلمات مبعثرة، وحكايا مبتورة، نحاول أن نسترجع ذاكرتنا المثقوبة والمشتتة، لنتذكر لحظة الكتابة.. هنا من يتذكر حتى الأشياء المحيطة به لحظة كتابة الملاحظة، ذاكرة صافية كالنبع، تبرق لتكون مشروع كتابة جديدة.