سارماغو في وداع الطبيعة

ثقافة 2021/03/24
...

طالب عبد العزيز 
 
كتب رئيس الحكومة الاسبانية خوسيه ثباتيرو يوم مات الروائي البرتغالي جوزيه سارماغمو (1922 - 2010) لقد قلتَ لنا "بأنَّ جدّك قبل أنْ يموت ودّع أهله وأصدقاءه والطبيعة، وانه عانق الاشجار التي تحتفظ بصفحات من كتابه" انا، الآن أعانقُ الاشجارَ لأحتفظ بذكراك الى الابد، لقد كنتَ يا جوزيه كلَّ الاسماء. يقول سارماغو في حوار صحفي، أثناء مرضه الاخير: "أنا أتوكأ على اللغة، كنت أتحرك بشكل سيء من السرير"، بدت لي أن جملة صاحب نوبل 1998 وكاتب (الطوف الحجري،
 ورحلة الى لشبونة، ومسيرة الفيل، والعمى..) تعنينا جميعاً، نحن معشر الشعراء والكتاب، ذلك، لأننا قد نشترك في مشاريع كتابية واحدة، لكنْ لكل منا لغته، التي يتوكأ عليها، ولا أعلم ممن سمعت بأنَّ اللغة تلاحقُ كاتبها الى القبر. هلّا تذكرنا حكاية الشاعر محمود البريكان، الذي زعزع دائرة بريد البصرة ذات يوم، وأجبرهم على فتح الصندوق المركزي،
 واضطرهم لإخراج رسالته، التي كان ضمّنها قصيدة الى إحدى المجلات لأنه (شكَّ) بوجود هِنَةٍ عروضية أو نحوية لا أكثر. عند سارماغو يصبح المؤلفُ خالقَ شخصياته، هو أحدُ مخلوقاتها. وكنت أقتفي أثر ما قاله في روايته (الكهف) ففي الفصول الاولى عشتُ حيرة البطل في إيجاد سوقٍ لتصريف بضاعته (أواني الفخار) التي يصنعها مع ابنته، في مفخرتهما الصغيرة، بعد أن غزت المواد البلاستيكية السوق، وعزوفَ التجّار عن شراء الفخار، لكنني، في الفصول اللاحقة صرخت معه لوقع الفكرة المدوية، فقد طلبت منه ابنته (مارتا) بأن يستبدلا صناعة الاواني بصناعة الدُّمى، هذه النقلة العقلية الكبيرة، التي نقلت الرواية وقارئها من الحيرة واليأس الى الدهشة والقدرة على الاستمرار. ترى،
 كيف أبدل العقل الروائي السارماغوي عملية السرد من البطء والرتابة الى المغامرة والتخلق، ذلك، لأننا سنقع على عوالم لا حدود لها من الاخيلة، التي لا يمكن تصورها إلا بوصفها وقائع لا بد منها. 
وفي مكان آخر يقول: "كنت أشعرُ بأنني محمول على كتفيّ الكتابة" هذا الشيوعي المختلف جداً، والذي لم يتخلَ عن انتمائه حتى ساعة موته، فهو العنيد والمفارق لليمين البرتغالي الحاكم، والذي ظلَّ "ينظر لما حدث بالصمت الذي به تثقبُ جذورُ النباتاتِ الارضَ" - أيّ جملة شعرية هذه- ظلَّ منسجماً مع ذاته روائياً، وإنسانا ومفكرا حراً، لذا، كان يوم تشييعه مشهوداً في لشبونة، فقد كتبت الصحف يوم ذاك: 
البرتغال الغاضبة منه تصالحت معه اليوم في جنازته. وبحسب كارلوس فوينتس فإن سارماغو لم يكتب كتاباً سيئاً. لعل جملة الشاعر خوان خيلمان ساعة دفنه كانت الابلغ، والاشد وقعاً "كيف بوسعنا أنْ نملأ بك الحفرة التي لا نهاية لها" هكذا، مات توأم الاشجار والانهار، المنطبق على الطبيعة، الذي قال بأنه اقترف أكبر خطيئة، ممكن أن يقترفها إنسان، إنه لم 
يكن سعيدا.