قراءة في ديوان {الهبوط الى برج القوس للكاتب حاتم الصكر}

ثقافة 2021/03/24
...

  أ. د. سعد التميمي
 
الشاعر الناقد والناقد الشاعر جدلية تعكس الوعي النقدي واللاوعي الشعري في خطابي الشعر والنقد للكاتب د.حاتم الصكر لحضور الشعر في نقده وحضور النقد في شعره، فهو مبدع في الشعر كما هو مبدع في نقده واذا كان التميز والغزارة والتنوع الذي عرف به منجزه النقدي قد قرنه بالنقد، فإن ذلك لا يلغي بقاءه شاعرا متميزا في دواوينه (مرافئ المدن البعيدة ـ 1975م) و (طرقات بين الطفولة والبحرـ 1980م) (ملاذ أخير 2004) و (الهبوط إلى برج القوس جنايات من الزمن الشعري 2020) وقد درسه د.محسن اطيمش ضمن جيل الستينات في "دير الملاك"، فهل أزاح الخطاب النقدي المتميز للصكر خطابه الشعري، هذا ما عبر عنه عبد العزيز المقالح في قصيدته (حاتم الصكر):  
                                                                          
 أيُّها الشاعرُ المتوهجُ
يا فاتنَ الكلمات
لماذا تركتَ القصائدَ مهجورةً
عندَ بابِكَ
مُطرِقَةً تتوسلُ
هل خابَ ظنُّك بالشعر
هذا الذي كانَ نجمةَ أحلامِنا
والملاذَ الأخير؟ 
فالصكر شاعر متوهج فاتن الكلمات لكنه لايتواصل باستمرار مع القصيدة لذلك يذكره بأن الشعر الحلم والملاذ.  
لعل بقاءه قريبا من مرافئ الشعر جعله يتفرغ لنقد الشعر، على الرغم من امتلاكه المعرفة والقدرة على تفكيك شفرات النص الأدبي أيا كان جنسه، فروح الشاعر العاشقة للشعر والعارفة بمقولاته وارهاصاته وتجلياته ومغامراته وتحولاته قبلت بالانقياد لعقل الناقد بما يكتنزه من معرفة واعية بالمناهج المختلفة وتفاعل مع حركات الحداثة التي طالت الشعر والنقد معا، فضلا عن التوظيف المدروس في قراءة القصيدة، ومما ميز التجربة النقدية للصكر أنها انطلقت من قراءة القصيدة من دون اقحام المناهج، ومن ملامح حضور اللاوعي الشعري لغة الصكر في التحليل ذات الطابع الشعري بما تقوم عليه من مجازات واستعارات، وتجلى ذلك بوضوح في العنونة التي كانت تنطلق من رؤية شعرية تقوم على المفارقة والانزياح والرمز أحيانا، فلم تكن العنوانات تقليدية بل تحيل الى آلية التعامل مع النص، ومن ذلك (الأصابع في موقد الشعر مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة، مواجهات الصوت القادم، دراسات في شعر السبعينيات، البئر والعسل قراءات معاصرة في نصوص تراثية، كتابة الذات دراسة في وقائعية الشعر، الثمرة المحرمة... مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر، الجرم والمجرة حول التحديث في الشعر الأردني المعاصر)، اذ تشتغل على جدلية اللاوعي الشعري الذي ينتج العنوان الأول الذي يقوم على التكثيف والترميز والمفارقة، والوعي النقدي الذي يقوم على قصدية الناقد الشاعر الصكر في  تفكيك شفرته، فجاء العنوان الفرعي للتوضيح والتفصيل ولم يخرج ديوانه الأخير عن هذا السياق، اذ يلحق بالعنوان كلمة (قصائد) ليسجل موقفا نقديا في إشكالية مصطلح قصيدة النثر التي كانت حاضرة في هذا الديوان.  
فهذه الجدلية التي حضرت في الخطاب النقدي والشعري للصكر، تظهر بوضوح في ديوانه الأخير (الهبوط إلى برج القوس) وأول مظاهرها المقولات الشعرية والنثرية التي قدم بها الديوان وختمه بها، إذ تضمنت (45) نصا لشعراء وكتاب وفلاسفة ونقاد، والعدد يعكس حضور الوعي النقدي الذي يوجه لا وعي الشاعر نحو فضاءات خاصة، اذ يصرح في تقديم الاختيارات بقوله (بألسنةٍ أخرى وبقلب شاعر: مختارات) فالاختيار جاء بوعي الناقد لا وعي الشاعر لتتماهى هذه الاختيارات في ما تطرحه من تساؤلات في الوجود والخلاص والتحدي، وتحضر الاختيارات بشكل آخر في قصيدة (أسماء وأفعال) فتأتي أسماء بعض الشعراء كعنوانات فرعية (المتنبي، رامبو، السياب، أدونيس، المقالح، حسب الشيخ جعفر)، فضلا عن توظيف أسماء دواوينهم ومقاطع من شعرهم فجاء الديوان بجزأين: الأول قصائد الشاعر (28) موزون ونثر تعكس تجربة شعرية غنية أسهم الوعي النقدي بتشذيب القصائد من الترهلات التي نجدها عند عدد من الشعراء، أما عنوان الديوان وهو لإحدى القصائد، فإنه يحيل الى ميلاد الشاعر فجاءت القصيدة لتسرد جانبا من سيرة الشاعر بقوله: 
صباحا طلعت
متشبثا بمشيمة فلاحة 
هبطت بها من بغداد 
الباصات الخشبية 
وقحط المزارع والجراد 
على حد عام يحتضر 
كما لو كنت انتظر صمت المدافع  وانتصاف القرن واكتمال الأولاد الخمسة
قبل أن يصبحوا درزينة فقراء وبمقابل توثيق الولادة يوثق الصكر للموت في كثير من المراثي التي قامت على بنية الغرض، وقد أرخ الصكر هذا الديوان بالخروج من برج القوس في البيان الختامي الذي هيمن عليه الوعي النقدي في مواجهة أسئلة وجودية في الهدف من رحلة الحياة وملامح المحطة الأخيرة، ليؤكد أن القصيدة عنده تنحو صوب التميز والتفرد وان النثر يضيء الروح ودهاليز الوعي ويعقد الصلة بين احتراقات الداخل وتمثلات الخارج بين الشعر والقصيدة، بين الولادة والموت لتولد القصائد بلا تسميات أو تصنيفات مسبقة والمكتوبة في سنوات متباعدة في ظلال أسوار برج القوس الذي يتراءى مكسورا.
بذلك يبقى للصكر مشروعه الشعري الذي يعكس رؤيته وحسه شعري الذي يتجلى في لغته المنطلقة من وعي نقدي والمعبرة عن موقف من الواقع، فقصائده تعكس أسئلة الوجود والقلق في متاهات الحروب والخراب والغربة، ففي شعره جرأة المعرِّي وأسئلة المتنبِّي وحداثة ابي تمام.
لذلك جاءت قصائد (جنايات) الصكر لتؤرخ زمنا مر به الشاعر ولم يتوقف، وهي مستمرة وان كانت على فترات متباعدة، فالشعر هو وسيلة الشاعر للتصدي لليأس والخراب والضياع، واستشراف رؤى مستقبلية أو الغوص في التراث للتعبير عن الواقع، وهو يرى علاقته بالشعر عشقية لا زوجية.
 في الأخير نقول: إن الصكر قارئ محترف يتعامل مع القصيدة بموضوعية ومهارة عالية وذائقة شعرية، وقد أبدع في الشعر مثلما هو مبدع في النقد، فلا يمكن ان نحتكم للكم في تقييم التجربة الشعرية.