صَنافةُ الجسد

ثقافة 2021/03/27
...

 رعـد فاضل
 
 
تحوّلُ (الجسد) إلى (جثّة) يعني أنّه خلّف فراغاً في مكان وفضاء ما خاصّينِ له كان يشغلهما: البيت، السرير، المقهى، سجل الأحوال المدنية (بانتقاله إلى حقل: متوفّى). 
في أثناء أدائي للخدمة العسكريّة إبّان الحرب قضّيتُ فترة في قلم إِدارة السّرية، وكان من أهمّ ما تنبّهتُ إليه زمنَ ذاك فقرة في ذروة الصَّنافة تقول: (أُستُشهِد وتنزَّل من القوّة والقِدْر). 
لهذه الفقرة فضاءان: فضاء يشتمل على سلاح المُنزَّل، وتعطيل معاشه، وعلى المكان الذي كان يشغله في خندق أو خلف ساتر ما...، وكذلك يطغه (فِراش وثلاث بطّانيّات ووسادة) الذي سينتقل بدوره من مكانه الأصليّ إلى مكان يُخزّن فيه حتّى يُسلَّم إلى شاغل آخر، فيعود ثانيةً إلى جسد آخر ليشغلا معاً مكاناً وفضاءً جديدين. أمّا الفضاء الثاني فهو ما سيشغله الجسد بوصفه، هذه المرةَ؛ جثّةً في: المشرحة، دكّة التغسيل، الكفن، التابوت - في حالة وجوده، ذلك أنّ هنالك من لا يحبذ استخدامه فيُختصرُ بوصفه مكاناً ليحلّ محلّه مكان آخرٌ يُعرف باللحد- ثمّ المقبرة بوصفها مكاناً عامّاً (عالَماً)، ثمّ القبر بوصفه مكاناً شخصيّاً محضاً بالتّمام والكمال.
الجسد مكان قائم بحدّ ذاته، له كما أيّ بيت: واجهة، طَلّةٌ، ملامح، لون، مداخل ومخارجُ تختلف وتتباين من جسد - بيتٍ إلى آخر، وقد تتشابه أيضاً في ذلك كلّه أو بعضه. 
وما كلّ تعب أو علّة تصيب عضواً منه بتلف ما إلّا وكأنّهما بالمقابل قد أصابا غرفة أو مرفقاً للبيت، فالتّجاعيد والأحافير والبثور والتّهدّلات التي ترقّش الوجه بتقادم الزمن، تحيل إلى تلك الانتفاخات والتّآكلات والخدوش والكُشْطات التي تصيب واجهة البيت أو الغرف وأصباغَها بالتّكلُّح، فيُعمَد إلى المساحيق وعمليات التّجميل من جهة الجسد، وإلى الكشط واعادة الطّلاء بالنسبة إلى البيت، وكلتا الحالتين ترميم وصيانة. 
الجسد يُزوَّر يوميّاً ((فالقناع والوشم ومسحوق التجميل، عمليات تتمّ من خلالها قلْع الجسد من فضائه الخاصّ، وقذفُه في فضاء آخر)) كما يقول 
فوكو. 
كما أنّ كلّ ثوب هو في الحقيقة مكان وفضاء في آنٍ للجسد يختلف عن سواه شكلاً وزيّاً ولوناً، وكذلك ما يشير إليه من بيئة اجتماعية وذوق جماليّ يمكن الاستدلال من خلالها على طبيعة الجسد الثقافيّة، فضلاً عن بعض الرموز التي تعدّ من مكمِّلات الثياب ليكتمل الزيُّ بها فمع الدّشداشة العربية لابدّ من الغترة أو اليشماغ والعقال، ومع البدلة ربطة العنق وأحياناً القبّعة أو ما يُعرف بالسِّدارة، ولا أدلّ على هذه الرموز البيئيّة والثقافيّة من الأزياء الشعبيّة للأجساد في مختلف أنحاء العالم. 
كما أنّ لكلّ ثوب فضاءً (من جهتي أفضّل دائماً الفضاء الشّسيع الذي تتمتّع به الأثواب الفضفاضةُ، في حالة زيادة وزني أو نقصانه على حدّ سواء). 
ولأنّ الثوب فضاء فله هو الآخر كما الطبيعة فصوله الأربعةُ التي يفرضها على الجسد أشكالاً وألواناً وفصالات تنسجم وطبيعة مناخ كلّ فصل، لأنّ الجسد من أوّلِ الخاضعين لمتغيّرات المناخ، وهذا له علاقة مباشرة بالتّكيّف مع هذه المتغيّرات.