ملاحظات عن الشعر والحرب

ثقافة 2021/03/27
...

  عبدالزهرة زكي
 
كان على الشاعرة البولندية آناسوير (1909-1984) أن تظل في الانتظار لستين دقيقة لينفذ الحكم بإعدامها من قبل النازيين أثناء احتلالهم بلدها بولندا. لم ينفذ فيها الحكم، وعاشت بعد ذلك مستمرة بعملها في المقاومة حتى انتهاء الحرب. لكن عملها الأهم عن الحرب تأخر لأربعين عاماً، ففي عام
1974 أصدرت ديوانها (تشييد الحاجز)، فكان خلاصة لتجربة الحرب العالمية الثانية كما عاشتها وعانت مآسيها.
لقد عدت إلى تجربة هذه الشاعرة بعد ما أتيحت لي قراءة مقال من كتاب الشاعر والناقد الانكليزي فرانسيس هارولد سكارف 
(1986-1911) المعنون (أودن وما بعده) والصادر عام 1942، فيما جاء المقال تحت عنوان (ملاحظات عن الشعر والحرب). 
إنها ملاحظات نظرية وتطبيقية كتبها سكارف في غمرة ظروف الحرب العالمية الثانية، وقد ترجم هذا المقال المهم الكاتب والمترجم فلاح رحيم ضمن كتابه (البحث عن ملاذ للشعر) الصادر عام 2020 عن جامعة الكوفة، وهو كتاب آمل أن أعود إلى مقالاته الأخرى في وقت لاحق.
أهمية ملاحظات سكارف تأتي من كونها مبكّرة من حيث طبيعة موضوعها وما تكرّس بعدها من تصورات عن الشعر والحرب سواء في الثقافة الإنكليزية أو في الثقافات الأخرى.
في واحدة من ملاحظات سكارف الجديرة بالاعتبار يمضي سكارف إلى أن"الشعر، بوجود الحرب أو غيابها، لا يمكن أن يكون وليد اللحظة". 
وهي ملاحظة أستعيد هنا، وبموجبها، تجربة الشاعرة البولندية التي بقيت تنتظر أربعين عاماً لتصدر بعدها ديوانها (تشييد الجدار) المكرس عن حياتها في الحرب.
ما يحضر في هذا الديوان هو (الحياة) في الحرب. صدى الحرب في الأرواح والضمائر والمصائر التي تمضي فيها حيوات الأفراد والمجتمعات جرّاء الحرب. سأضع هنا قصيدة قصيرة للشاعرة، وهي قصيدة كان قد نوّه إلى قيمتها الإنسانية شاعر بولندي آخر هو تشيسلافميلوش الحائز على نوبل، والذي كرّس جانباً أساسياً من اهتماماته من أجل التعريف بالأدب السلافي، وذلك بعد هجرته إلى الولايات المتحدة. والتنويه من قبله بقصيدة آنا سوير يأتي في إطار هذا الاهتمام. 
تقول القصيدة:
قالت امرأة لجارها:
منذ مقتل زوجي لم أقوَ على النوم،
طوال الليل أرتجف تحت الغطاء.
سأصاب بالجنون إنْ كان عليَّ أن أكون اليوم وحدي،
لدي بعض السجائر التي خلّفها زوجي،
أرجوك
لاتمر هذه الليلة.
هذه  القصيدة تقدم تلقائيتها ببساطتها التي تعبّر فيها امرأةٌ عن مشاعر متضاربة في وضع الحرب المضطرب. يقول ميلوش إن هذه القصيدة القصيرة تتضمن حياة كاملة، حياة أقبية المدينة التي تعرضت للقصف والقصف باستمرار. إذ كانت تلك الأقبية المتصلة بممرات عبر الجدران تشكّل مدينة تحت الأرض. وما يجمع الناس، رجالاً ونساءً، في مثل هذه الحياة بظروف الحرب والخوف هو ليس العواطف وإنما الإحساس الفظيع بالوحدة والخوف من الوحدة. 
تقول القصيدة:"سأصاب بالجنون إنْ كان عليَّ أن أكون اليوم وحدي"، لكن الزوج، قتيل الحرب، حاضر في هذه القصيدة، في ليل الحرب والوحدة فيه وذلك من خلال أثر منه، من سجائر كان قد تركها.
تؤكد ملاحظات سكارف أن قصيدة الحرب الجيدة يجب أن تكون قصيدة سلم جيدة. ثم يضيف ملاحظة أخرى:"ولكي تكتب مثل هذه القصيدة في الحرب أو في السلم يجب على الشاعر أن يكون شاعراً بالفعل، أي يجب أن يمتلك قوة ورهافة في الشعور يجب أن تفوق المستوى الاعتيادي وخلفية في الفكر والتجربة الشخصيتين تعوّد تقنياً على التعبير عنهما وسيكولوجياً على البوح بهما من دون خوف".
وأحسب أن تجربة الشاعرة البولندية آناسوير، من خلال ما أتيح لي من نصوصها، هي مثال وثيق الصلة بما يلبي هذا الاشتراط. 
إن نصوصها تحيا في خضم اضطراب الحرب لكنها تنأى بنفسها عن الانقياد لهذا الخضم. تستدعي الحرب استثمار كل ما يتاح لها من قدرات الناس حين يكونون تحت وطأتها، والشعر ليس بالبعيد عن هذه القدرات المستهدفة بقصد استثمارها في العادة. 
هذا ما يتكفل به الشعر القادر على التنازل عن حدوده حينا والمتساهل في قيمه الإنسانية حينا آخر. يستذكر فرانسيس سكارف في مقاله المذكور قصائد معاصره الشاعر البريطاني اللورد فانسيتارت والتي يصفها بكونها"قصائد الكراهية المسمومة" التي"يلوث بها صفحات (الصاندي تايمز) في صباحات السبت"، فيقول: "ومهما كانت جودة قصائد اللورد فانسيتارت بوصفها دعاية فإنها تعتمد على تطرف في الكراهية يتعارض مع العواطف المسيحية التي يدعيها لنفسه".
الشعر ينجح أو يخفق بموجب الكيفية التي يأتي بها، أو نوع"علاقته" التي ينشئها مع الأحداث الملهمة له، والمراد هنا أحداث الحرب. 
يقول سكارف:"وأكثر من ذلك إن أفضل قصائد الحرب قد لا تكتب بالضرورة أثناء الحرب". 
إذ يتوقع سكارف النسيان مصيراً لقصائد اللورد وللورد 
نفسه. 
يستشهد من أجل ذلك بتجربة الفرنسي بول فورت في الحرب العالمية الأولى، ويطالب، وهو يكتب في ظروف الحرب الثانية، باتخاذ العبرة من فورت الذي"ربما كان خلال الحرب الماضية ــ العالمية الأولى ــ أكثر شعراء فرنسا شعبيةً لكنه صار أسرعهم بعد انتهاء الحرب تعرضاً للإهمال".
في القصيدة التي أختم بها هذا المقال، وهي أيضا للشاعرة البولندية،  تنشئ آناسوير (نوع علاقتها) بالحرب بحيث لا أثر شاخص منها، من الحرب، ما يحضر في هذه القصيدة هو الحياة، الوحدة في الحرب، الحاجة إلى الآخر، والنأي عنه، الانفتاح 
والانغلاق. ما يحضر هو المزاج المضطرب، هو المشاعر المتضاربة، من عاش حياة الحرب يدرك دواعي هذا التمزق.
 
• سأفتح النافذة
 
استغرق عناقنا طويلاً.
لقد أحببنا بعمق حتى العظم.
أسمع العظام تطحن، أرى
هيكلينا العظميين.
الآن أنا أنتظر
حتى تغادر أنت، حتى
لا يعود وقع حذائك يُسمع. 
الآن، صمت.
سأنام الليلة وحدي
على فراش الطهارة.
الوحدة
هي أول تدبير صحي.
الوحدة
ستوسع جدران الغرفة.
سأفتح النافذة
وسيدخل الهواء البارد الرحب،
معافىً كم أساة.
الأفكار البشرية ستدخل
وكذلك المشاغل البشرية،
ونحسُ الآخرين، وقدسية الآخرين.
أنهم سيتحدثون برقة وصرامة.
لاتأتِ بعد الآن.
أنا حيوان
نادر جدا.