المعايير الكميَّة والكيفيَّة والدلاليَّة في (مهرجان حبات السكر)

ثقافة 2021/03/29
...

 علوان السلمان
 
من المسلمات، ان لكل جنس ادبي منهجه ومقتربه الوصفي والتحليلي وادواته التقويمية وتكنيكه الفني، والنص الشعري القصير جدا(نص الصورة) جنس ادبي قائم بذاته وطاقته التعبيرية الكاشفة عن كوامن التجربة الانسانية (الفكرية والوجدانية)، باعتماد اللغة الموحية التي تعد من الممكنات الجمالية، والتقنيات الفنية والاسلوبية في بنائه، اضافة الى احالته على عوالم ودلالات ابعد من دلالاته الواقعية من خلال شحن الفاظه بأقصى الطاقات والتعابير الموحية.
وباستحضار المجموعة الشعرية (مهرجان حبات السكر) التي نسجت عوالمها الصورية المتميزة بالتكثيف الايحائي والنزعة السردية الموجزة والمقصدية الرمزية والتلميح والاقتضاب،انامل منتجها حسن عبدالحميد،واسهمت دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/2020،كونها تعتمد المعايير الكمية التي تتحقق من التكثيف والابتعاد عن الاسهاب واللجوء الى الاضمار والحذف، والكيفية والدلالية والمقصدية التي تتحقق من خلالها المقومات النصية(الحدث والشخصية) بلغة استعارية،وجمل ايجازية، والفاظ ترميزية موحية،محققة للوظيفة الجوهرية المستفزة للذاكرة من خلال اتكائها على فكرة ورؤية خالقة لصورها الممزوجة بالعاطفة، التي من دونها (تكون الصور فارغة) على حد تعبير كروتشة، مع ضربات ايقاعية متفاوتة وانزياح لغوي، اضافة الى قيامها على تكثيف حدثي،مع ابتعاد عن الاستطراد الوصفي واعتماد ضربة اسلوبية ادهاشية مفاجئة محققة لأثرهاالسيكولوجي، بدءا من الايقونة العنوانية النص الموازي والمشهد الحدثي، الذي اعتلى جنس المنتج وتوسدا لوحة متماهية بصورها والمتن النصي بمشاهده الدرامية، مشكلة حركة ارتدادية من الخارج الى الداخل،اضافة الى اهداء مموسق متناغم وصاحبه (سلطان الخطيب عازف البيانو)..
لم يدر في خلدي
أن...المرايا
حين تغضب
تتخذ شكل شظايا/ ص12
أطيل النظر..
في وجه المرآة
وأضحك
فهل سأجرؤ بالبوح
ان...
ضحكت في وجهي
المرآة/ص14
فالنص يمتاز بلغته المكثفة التي تطرح مقولتها المضمونية في سياقها بألفاظ ذات دلالات موحية،منطلقة من بؤرة موضوعية رامزة مع درامية تميزت بدفقاتها الشعورية التي تقوم على فكرة وبناء يتسم بالاختزال والاقتصاد في اللغة، مع حضور عنصر الدهشة والترميز والاستعارة، فضلا عن اعتماد التكثيف والاقتضاب والتبئير والتركيز مع اتكاء على بلاغة التشظي واعتماد الفاظ موحية (ذهنية ووجدانية)، اضافة الى الابتعاد عن الاستطراد الوصفي والسردية النسقية، فتظهر الذات ويطفو الخيال ويسمو الانزياح..
ـ يااااااااا...
يا.. أنت.. يا أنثاي يا هبل
الهواء الذي يفصل
ما بيننا... متى نرجمه... بالقبل /ص54
ـ سيدتي.. حبك عندي
قد جفف
كل ينابيع النساء/ ص57
فالمنتج(الشاعر) يعتمد البناء الصوري الذي شكل (بؤرة مكثفة اقتصاديا) على حد تعبير جاك دريدا.. فضلا عن انه يتجلى في كتابات الصوفية بشكل شطحات كما عند الحلاج في طواسينه والنفري الصوفي في مخاطباته ومناجاته التي يرى من خلالها انه (كلما اتسعت الرؤيا.. ضاقت العبارة).. لذا فالنصوص تحمل صورا عميقة الدلالة قائمة على الانزياح والمفارقة والعصف الذهني، كي تعبر عما يختمر في ذهن منتجها من لحظات مشهدية مستفزة لذاكرته المولدة للاستعارات والانزياحات فيتخذها منهجا في التشخيص والتأويل، فضلا عن توظيفه تقانات فنية واسلوبية كالتنقيط (النص الصامت) والكناية البصرية عن دال مسكوت عنه بقصدية المنتج كي يدعو المستهلك (المتلقي) لملء بياضاته، اضافة الى توظيف النداء الحركة الزمنية المتراكمة بتأثير الصور في وجدان المنتج (الشاعر) تراكما كثيفا مترابط الاحداث وهو يعتمد النمو الزمني، فضلا عن استدعاء الرمز الذي هو اداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك الشعري، اذ فيه تتحول الصورة الى رؤية، وهناك التقطيع الكلمي افقيا الذي شكل عدولا بصريا في طريقة رسم المفردة الشعرية تعبيرا عن البعد النفسي لدلالته في النص.
ـ مرة..حلمت بالموت يصطفيني اليه
وحلمت.. بذاك الحلم
أني.. أغار عليك /ص82
ـ آخر الليل.. تنام الطرقات
لاأسمع غير شخير النجم
ووقع خطاك..
مفزوعا في السر
أخمن.. من هذا القادم
من عطش القلب
في جنح... ملاك؟؟ / ص81
 فالمنتج (الشاعر) يحاول تطويع اللغة في انزياحاتها عن مساراتها المألوفة، فيؤنسن الجمادات ويعتمد تعالق الرؤى من جهة وارتباطاتها والحالة النفسية من جهة اخرى، فضلا عن محاولته اقتناص اللحظة والمزاوجة بين الحلم والواقع لبناء تشكيل نصي قائم على الاختزال والتكثيف الجملي، مع توظيف ضمير المتكلم (الانا) بشكل تناسقي، مغطيا كل فراغات البنية الصورية وهي تتوحد والطبيعة..
عالم ضيق بسعة الكون
كان يجمعنا
عالم واسع ضاق بنا
يوم افترقنا
فالنص لقطة مشهدية درامية مكتنزة بإيقاعها عبر تشكلها الفني المحقق لتأثيره الجمالي من خلال الصورة المتكئة على الزمن والثنائيات الضدية (عالم ضيق/عالم واسع) لتجسد المعاني، وتعبر عن الحالة النفسية المأزومة زمانيا ومكانيا، مشكلة نصا يقوم على شعرية الرؤية في اطارها البنيوي.
وبذلك قدم المنتج (الشاعر) نصوصا وجدانية، ايحائية في ابعادها المجازية والتحليلية التي تتجاوز النسقية وتتمرد على الواقع المأزوم، بصفتها انطباعات عقلية ونفسية بطبعها التجريدي، مع تميزها بالانزياح والتركيز والاختزال الجملي والاقتضاب والابتعاد عن الاستطراد الوصفي، محاولا توطيد نسقها الشعري المنفلت من ربقة التصورات والقوالب الجاهزة القائمة على رصف الالفاظ لا التأسيس فيها.