أ.د.عامر حسن فياض
لكي يصبح الحوار الوطني الذي دعا اليه السيد مصطفى الكاظمي مجديا، وكيما لا يتحول كغيره من مبادرات الحوار الى جعجعة بلا طحين، ينبغي أن نفهم جيدا أن هدف الحوارات يتمثل بتحقيق مصالحة وطنية ...إن الانخراط في عملية المصالحة الوطنية تتقدمها ضمانات كي تنجح وعندها تصبح المصالحة الوطنية بذاتها هي الضامنة للسلم الاهلي ولتجاوز ماضٍ عنيفٍ، قريبا أكان أم بعيدا، واعادة بناء دولة مدنية لجميع ابنائها.
إن سؤال المصالحة الوطنية يتقدم على جملة أسئلة هي الأخرى بحاجة إلى أجوبة وحلول بينما أصبح السؤال الذي نحن بصدده وأعني سؤال المصالحة الوطنية بأمس الحاجة إلى تقديم أجوبة إجرائية وجريئة عنه كيما نفهم ما يحصل في عراق ما بعد البارحة وما سيحصل في عراق ما بعد اليوم. وهنا لا بد من أن نطلق مبادرة مصالحة حقيقية على أساس ضمانات بعيدة عن العفوية والارتجال لأنها مسيرة طويلة الأمد وواسعة الغاية ولا يمكن تحقيقها بوصفة واحدة محلية أو مستوردة، ولا يمكن استعجالها أو فرضها بالقوة. فهل المصالحة الوطنية مطلب بريء أم مطلب بعيد عن البراءة؟، وهل الدعوة لها حل أم مشكلة؟، وما الضمانات الوطنية والدولية لنجاح مسارها وصولا إلى غاياتها؟.
تصبح المصالحة الوطنية مطلبا غير بريء، ودعوة اشكالية عندما تنزع أولوياتها وطبيعتها من المضامين السياسية!، وعندما تغيب العدالة الانتقالية عن آلياتها، وعندما يتولى تحديد طبيعتها ورسم أهدافها وتطبيق آلياتها، الساسة التنفيذيون، من دون التشاور والمشاركة بمسؤولية مع الطبقة السياسية والمؤسسات الدستورية والاحزاب والقادة والمجتمع المدني.
إن المصالحة الوطنية هي مسار بحد ذاته، وليست حادثا منفردا أو طارئا وهي غاية تتمثل ببناء أو إعادة بناء دولة في أهدافها وهي ذات ايجابيات مجتمعية لا فردية في نتائجها، وهي مصالحة سياسية بامتياز في مقدماتها ومنطلقاتها واطرافها.. بمعنى أنها ليست ترضيات وصفقات ما بين طرف فقد امتیازات يريد استرجاعها، وطرف کسب امتیازات لا يريد أن يتخلى عنها.. وهي مصالحة سياسية بمعنى أن أطرافها ينبغي أن تشارك فيها بوصفها أطرافا سياسية وليست اطرافا غير سياسية (قومية تعصبية - مذهبية دينية- تقليدية عشائرية- اجتماعية أسرية).. وهي مصالحة سياسية في منطلقاتها بمعنى أنها بين ممثلين ومنتخبين ولا تنطلق من ممثلي قوميات أو مذاهب أو عشائر أو أسر ومدن ومحلات وربما أزقة!.. وعليه فإن وجود اطراف تختار نفسها بالثروة أو بالقوة أو يختارها طرف أجنبي تستقوي به وهي غير منظمة سياسيا ومبعثرة قوميا ومذهبيا ومناطقيا يجعل من المصالحة الوطنية كلاما فارغا قد تحقق ترضيات بيد أنها لا تحقق تسويات!. والسياسة، كما هو معروف، تسويات لا ترضيات، وفي التسويات يضمن الحاضر المتوازن، وربما يتحقق المستقبل المنشود، أما في الترضيات فربما يضمن الحاضر التحاصصي بالصفقات والامتيازات ولكن لا يتحقق المستقبل المنشود. بعد ذلك هل هناك هدف للمصالحة الوطنية؟، وهل الهدف، أن وجد، يتمثل بمغادرة مشکلات ماضي؟!، أم تسوية مشكلات حاضر؟!، أم معالجة مشكلات ماضٍ وحاضرٍ من أجل مستقبل؟.
الصحيح أن الهدف من المصالحة الوطنية الحقيقية هو هدف مستقبلي لا هدفا ماضويا فقط ولا هدفا آنيا معاشا فقط.. وهذا يعني أن كل دعوات المصالحة الوطنية حتى الوقت الحاضر تعاني من عدم وضوح الهدف، وان كان هناك هدف فإنه هدف يراوح بين الماضي والحاضر من دون المستقبل!، ولكن إذا كان هدف المصالحة الوطنية هو المستقبل، فماذا نعني بالمستقبل؟، وهو مستقبل من؟، إن الغاية من المصالحة مستقبلية تتمثل بإعادة بناء دولة تستحق أن تسمی دولة ويكون لها مؤهلات الاستمرارية وخدمة مصلحة المواطنين عامة. بمعنى أن المستقبل هنا هو ليس مستقبل الشيعة وحدهم، وليس مستقبل السُّنة وحدهم، وليس مستقبل الكورد وحدهم، وليس مستقبل من يريد فقط استرجاع امتیازاته التي فقدها بعد تغيير نظام سابق، وليس مستقبل من لا يريد التخلي عن امتیازات کسبها من النظام الحالي.. إنه مستقبل العراق.. ولكن أي عراق؟، إنه ليس عراق الشيعة فقط، وليس عراق السنة فقط، وليس عراق الكورد فقط،... إنه عراق الدولة وليس عراق ما قبل الدولة، لأن عراق الشيعة فقط هو عراق ما قبل الدولة.. ولأن عراق السنة فقط هو عراق ما قبل الدولة.. ولان عراق الكورد فقط هو عراق ما قبل الدولة. أما عراق الدولة فيعني عراق الفرد، المواطن، والمواطنة والمواطنية، وليس عراق الرعايا والتوابع والزبائن.. كما يعني عراق الجماعات المدنية الممأسسة وليس عراق الجماعات التقليدية (تعصبيات قومية - طوائف مذهبية - عشائر وأسر)..، كما يعني عراق السلطة الشرعية القائمة على التمثيل الانتخابي والمنجز المستدام وليس عراق السلطة الفردية الكليانية، ولا عراق السلطة الهشة المحكومة بضعف المركز الديمقراطي الاتحادي وقوة الأطراف الجهوية الضيقة...
في الختام نرى أن المصالحة الوطنية هي مسار وليس قرارا، وأنها قمة غير مدببة بل عريضة تتسع للجميع.. وأنها منظومة انجازات تشريعية وأمنية وخدمية لبناء الثقة.. وأنها حل حقيقي عندما تكون ذات أبعاد محلية وطنية عراقية فاعلة واقليمية ودولية ايجابية داعمة.. وأنها مصالحة وطنية ينبغي أن تفهم بوصفها انجازات وضمانات وليس حوارات ومؤتمرات... كما ينبغي أن تفهم بوصفها فعلا سياسي المنطلق، ومجتمعي النتائج، ومستقبلي الغاية، ومستدام الزمان، وعراقي المكان .... وللحديث بقية.