الرؤية والمجاز

ثقافة 2021/04/07
...

د. أحمد الزبيدي 
 
ما ذُكِر النّفريّ إلا وذُكِرَت معه مقولته الفلسفية الشهيرة : (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ) ومن أسباب شهرتها انفتاح حكمتها على فضاءات ثقافية واتجاهات معرفية متعددة، حتى تكاد أن تكون قانونا كليا يشمل التجارب الإنسانية بمختلف نوازعها.. ولعل الحقل الجمالي أكثر الحقول الإنسانية اشتغالًا عليها،ولأن الاشتغال الشعري على اللغة اشتغال خاص ومكثف، وله قوانينه الخاصة لذلك فإن الفضيحة المجازية في الشعر أكثر تجليًّا من الأنواع الأدبية الأخرى. وحين تواجه المجاز الشعري بالرؤية الفكرية، فإن الفضيحة  ستكون شريكًا في العمل ومتفردة في الطرح لأنها لا تتقيد بالحدود البلاغية للصورة الفنية، ولم يكن النقد العربي القديم في غفلة عن هذه الإشكالية، فقد أدرك النقاد أن شيوع الحكمة عند الشاعر يكلف القصيدة خسائر مجازية، فتضعف الصورة، وتراوغ عن جادة (أعذب الشعر أكذبه) . ومن النقاد البلاغيين مَنْ يدعو إلى أن يلحق الشعر الفلسفي بالشعر التعليمي،ولكن علينا أن نفرّق بين تغدية الشعر بالغذاء المعرفي والرؤى الفكرية وبين شحنه بالرؤية الايديولوجية،التي تخنق الشعر باتجاه واحد بغض النظر عن الطاقة المجازية الكامنة في خلايا النص اللغوية .
إنّ شيوع ظاهرة المفارقات الساخرة ورد العجز على الصدر ومخالفة الأقوال الشائعة بطرف مجازية هي انعكاس لضعف فكري وتضخيم مجازي. وأعلم- جيدًا- أن في الرأي قسوة فليس المجاز ولا سخريته ولا المفارقة ولا الاستعارة، هي العائق بل على العكس طالما كانت السخرية ورديفتها المفارقة وسيلة بلاغية للتعبير اللغوي العميق والفكر المشاكس وتكثيفًا للمعنى، وإنما أعني تعطّل المجاز عند دائرة مراوغة المعنى وتزويقه لا صناعته وتعميقه، مجازات ومفارقات تثير ضحكك ومتعتك المجازية ليس إلا، وإن فتشت عن عظيم معنى أو تلابيب فكرة خلت القصيدة منها! وهناك فرق بين تقريرية القصيدة وخطابيتها وسطحيتها اللغوية الباهتة، وبين عمقها الدلالي وغناها الفكري، الذي يدعوك إلى التأمل والتفكر لا إلى الإجابة الجاهزة قبل أن تنتهي القصيدة، وليس العيب في التدفق المجازي داخل النص الشعري، ولكن العيب أن يكون المجاز عاملًا للتزويق السطحي للمعنى وتجميلًا للرتابة الفكرية والتقريرية، ومن ثم فإن المقدرة الفكرية لا تقل إبداعًا عن المقدرة المجازية، فهي تعكس ثقافة الشاعر وسعة اطلاعه ورؤيته الاستشرافية، التي تتعالى على الغنائية الطافحة بـ(الأنا ) 
وهنالك تجارب شعرية زاخرة استطاعت أن تشاكس الحقائق الجاثمة بلغة تهز الرتابة العقلية، لتثير أسئلة وجودية، فهي كثيرة وتبعث على السعادة والتأمل والنظر في خلاياها التركيبية واللسانية، الشعر ليس سجلا فحسب كما أراده (النقاد الغنائيون) أنه تجاوز للعالم أيضا، ومشاكسة للحقيقة وسؤال أكثر مما هو إجابة، فكلما اتسعت (الرؤية) ضاقت (البلاغة) .