اعتقال الثقافة وتعنيفها المستمر

ثقافة 2021/04/08
...

  أحمد رافع  
 
انطوى الفعل الثقافي الذي دام لأكثر من ثلاثة عقود في البلاد بحكم النظام البعثي على انتزاع صفة الحرية التي لطالما كانت حزام الأمان الثقافي لانقلابٍ ما، ولعل هذا يعود إلى تضييق حرية التعبير الذي مارسته السلطة الحاكمة. 
من جهة أخرى فإن الفعل الثقافي يعد من الأدوات الفاعلة للنظام السياسي،إذ يلعب دوراً بارزاً في مناحي الحياة العراقية كافة، وإن العكس ما هو إلّا دليل على أن السياسة تستخدم منشطاً داخل الفعل الثقافي..والذي في حقيقة الأمر انتزاع صفة الأخلاقية لغرض التستر عما يدور في المجتمع عبر تجهيل أهمية الكلمة.
وهكذا فلا قدرة على تفكيك مرجعية السياسة التي تنادي الامساك بزمام الأمور الثقافية من دون تحليل توجهات النظام السابق، ومن دون الرجوع إلى المتسبب الأول في تحريك الجرم السياسي تجاه الفعل الثقافي المعتقل، ومن دون أيضا الحفر في الطبقات (الجيو – ثقافية) التي تنحدر منها الشخصنة المسحوب أمرها لما يسهم به الفعل الثقافي في انبثاق جماعات متحررة لها مردودها الإيجابي في نيل الحياة ولها الرد السلبي على السلطة الحاكمة آنذاك. 
إذ عملت الأخيرة على تجريف من أخذ على عاتقه الحفر وراء هذا النظام.. الأمر الذي أدى إلى الهيمنة على الثقافة وتحديدها فأضحت مشوهة وانقلبت من بياض الكلمة إلى سواد موقف غابت فيه قدرة الخروج من أصفاد مرئية ولامرئية.. تلك الاصفاد التي لاحقت المثقف الواعي بقيمة حرية التعبير.
حقيقة، لايمكن فهم الأنشطة الثقافية بشكلٍ منفصلٍ عن السياسية. وليس ممكناً أيضا عزل الحراك الثقافي عن (حزب البعث المباد) لأن هذا الحراك بدا كجزء لا يتجزأ من المنظومة الحزبية التي روجت له عبر استخدام الأنشطة الأدبية بوصفها أداة مهمة في التعامل معه، حتى أن هذه المنظومة سارعت بقمع كل من لا يتوافق مع أيديولوجيات استمرار (حزبها) فكريا عبر سلطة المحو التي اعتقلت وأعدمت كل من واجه عدم مشروعية  النظام  
الدكتاتوري.
ولهذا لا يمكن الأخذ بنظر الاعتبار الشخصية - السوسيو بوليتيكية - وحدها  لفهم  بنية المجتمع من دون الولوج إلى نظام دأب على مقاربة الشخصيات المؤثرة في المجتمع وضمها لجانبه بمختلف الأساليب، ولعل إحداها كانت التخويف والترهيب بسلطة الاعتقال غير المباشرة.. تلك السلطة التي تخفي الوحشية المضمرة وتخلق أيدولوجيات مغايرة تتمثل بعسكرة الثقافة وشيوع أدب الحروب وهيمنته على المشهد من خلال مواكبتها لأحداث وتوثيقها بقصص وقصائد تحمل فكرا زعمت السلطة أن قوة تأثيره حاصرت كل من ناهض هذا الفكر وانزاح عن وجوده. 
في تلك المرحلة ذهب الشعر العراقي لثلاثة اتجاهات، الأول وقف مع الإنسان البسيط ومشكلة المجتمع ومناهضة الحكم وكانت نهايته أما السجن أو الهروب خارج العراق واستئناف المسيرة الشعرية الحرة من دون قيود بينما غيره راح يعمل داخل العراق بعيدا عن المباشرة في النص الشعري للالتفاف حول استبداد السلطة كي لا يقع ضحية المقصلة فاستخدموا الرمز والتورية للإفلات من الرقابة الممنهجة، وفي حين ذهب الآخر بتشبيه بعض الأسماء السياسية باسم شخصية تاريخية مستبدة كشخصيات النظام البعثي على الرغم من المضايقات عدم المديح إلّا أنهم وضعوا الحلول المناسبة في وقتٍ خطير وهم على دراية بإسهامه في مقتلهم ومصادرة كلمتهم برصاصة واحدة، ونتيجة لذلك يعد من أسمى الاتجاهات المحافظة والمنددة.  
يبرز الاتجاه الثاني بمطربةِ الحي وهو امتداد للواقع الحالي الذي أفنى القصيدة في وصف (حزب البعث الفاشي) وتزيين وحشيته وتجميلها من خلال طرق كتابية معروفة ترسم ماهيات تبعده عن التعسفية، فلعب دوره في التجهيل وغسيل الأدمغة وقرب فكرة الانتماء إليه وخدمته بالدم كفعل مقدس، وهذا الاتجاه ليس بذريعة الخوف بل المنهج الذي ترتبوا عليهفي أنهم القلم الفاعل والموثق البطولي. 
أما الاتجاه الثالث فكان يشمل بفرعيه النص غير المستقر والمتقلب بحسب انتمائه المتغير تبعاً لحكومات متعاقبة.. فنجده يعيد كتابة النص الذي كتبه في زمن الديكتاتورية ويحذف بعضا من مفرداته ويشذبها كي تناسب العصر الحالي..كمن يبيع ويشتري في آنٍ واحد. هؤلاء تأتي تبريراتهم الدائمة بشكل غير مقنع كأن يحدثك بأنه كان يكتب قسراخشية القتل.