قدرة الرواية العراقيَّة على كسر التابوات القديمة

ثقافة 2021/04/10
...

  البصرة: صفاء ذياب
مرت الرواية العراقية بتحولات عدة منذ بداياتها في عشرينيات القرن الماضي، ربما الأولى في شكلها وموضوعاتها التي كانت تهدف لتنوير المجتمع القابع تحت ظروف التخلف والجهل، غير أن خمسينيات القرن الماضي شهدت انطلاقة جديدة في الرواية العراقية على يد غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهما، لتصل في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي لانعطافات مختلفة أهلتها للتغير الكبير الذي حدث بعد العام 2003، والانقلابات السياسية والاجتماعية والثقافية، لتبدأ بشكل مغاير بموضوعات وأساليب تختلف عن الأسس التي انبثقت منها.
فما الذي أحدثه انقلاب العام 2003 في جسد وعقل الرواية العراقية؟
دحض الأيديولوجيا
 يرى الدكتور عقيل عبد الحسين أنّه لم تكن الرواية العراقيّة بعد 2003 معزولة عن التغيّرات التي حصلت في شكل الرواية العربيّة، وفي وظيفتها الثقافية، في العقود الثلاثة الأخيرة. وكانت استجابة لرواية ما بعد الحداثة، التي ركزت على العودة إلى السرد المتصل حد التتابعية، والعودة إلى سلطة السارد، مع استبدال المرويات الكبرى بمرويات صغرى تعود إلى الذات الساردة، وهويتها، وبيئتها وانتمائها الجنسانيّ، والإثنيّ، أي أنَّ الرواية تصير أقرب إلى الدفاع عن الأقليات وإلى دحض الأيديولوجيا. وبذلك، كله، تصبح الوظيفة أكثر أهمية من الشكل والبنية السردية، ومن العناية بها وعدها استعارة موسعة لفلسفة، أو لفكر روائيين، تحتاج إلى قارئ. وإذا كان من خروج عن هذا التصور الكتابيّ ما بعد الحداثيّ فهو، في الغالب، اجتهاد فرديّ من قلة من الكتّاب، لا يحظى إلّا بنصيب قليل من المقروئية، وبتقدير نقديّ محدود، في حقبة روائيّة صار التقييم النقدي فيها قليل الأهمية للكاتب وللكتابة، وصارت الغلبة لتقبل القرّاء العاديين، ولأحكام الجوائز التي تجاهر بأنها تضم في محكميها المتخصص والقارئ العام. تبقى الإشارة إلى أنَّ البيئة العراقيّة أصبحت، بحكم غياب الرقابة على الكتابة الروائية وغياب تحكم السلطة الصريح بها، أكثر خصوبة؛ لذا شهد العراق تفوّقاً كمياً في الروايات، حتى وصل عددها إلى ما يقرب من الـ1500 رواية.
 
كسر التابو
 في حين يعتقد الناقد علي سعدون أن الرواية العراقية اعتمدت نوعين من الاشتغال، هما: الرواية التي تنتمي إلى أطروحات مابعد الحداثة من خلال اهتمامها بنقد الواقع العراقي وتفكيك مقصديات إشكالاته على مستوى الهوية والدين والطائفة ونقد جدلية السلطة وعلاقتها الملتبسة بالمجتمع. في حين انشغلت في شقّها الآخر بأطروحة حفريات التاريخ المعاصر وتتبّع الأثر الاجتماعي والثقافي وربطه بما يحدث اليوم من تصدّعات هائلة في بنيته الاجتماعية والثقافية. على أنَّ ذلك كان يجري بنمطين من الكتابة هما الواقعي والفنتازي. فقد نتفق مع النمط الواقعي الذي جعل من الرواية بحثاً في السوسيوثقافي بمعنى من المعاني، لكنَّنا سنختلف كثيراً مع نمط الكتابة الفنتازية التي أخفقت كثيراً في إيجاد مقاربات حقيقية بين الغرائبي واللامعقول وبين ما يحدث في الواقع على الأقل في سنوات 2005 و2006 على وجه التحديد.
فضلا عن ذلك، يعتقد سعدون قدرة الرواية العراقية الآن تكمن في كسر التابوات القديمة في الجنس والدين والسلطة.. رواية ما بعد ذلك التاريخ هي بحث في إرهاصات الحياة وتداعياتها أكثر من كونها حكاية طويلة تخضع لمحددات وشروط إنتاج الرواية.
 
تشظي الهويَّة
 ويُبين الدكتور أحمد الزبيدي أنَّه إذا كان الشعر يظهر مع الاستبداد والصوت الواحد فإنَّ الرواية تنتعش مع ضعف (السلطة) كما يرى باختين، لذلك فقد انتعشت في أوروبا مع غياب الفاشية والنازية وفي روسيا مع غياب بطرس الأكبر.. إذاً أيمكن القول: إنّها انتعشت -عراقياً- مع غياب السلطة المركزية والشمولية والدكتاتورية؟.
ويظن الزبيدي أنَّ هيمنة الرواية على بقية الأجناس والأنواع الأدبية الأخرى ليس عراقياً فحسب، بل ظاهرة عربية لها علاقة بالتحولات الثقافية التي بدأت تغير مسار الخارطة الثقافية، فقد بدأت تنظر إلى الإثنية والتعدّدية وصعود طبقات كانت مغيّبة، فضلاً عن رؤية الميتاسرد التي قيّدت اشتغالات العناصر السردية الصارمة، وانحاز الروائي العراقي ما بعد (2003) إلى التناص التاريخي وتوظيفه عبر مراحل مختلفة: عثمانية وبريطانية وملكية.. من أجل تجسيد ثيمة (الاحتلال) ومن هنا أغدقت الرواية العراقية الحديثة في هذا الموضوع كتعبير عن (تشظي) الهوية الوطنية وصراعها مع الآخر المختلف مما أدّى إلى ضعف الصوت الروائي الذي يُعنى بالتحولات الاجتماعية وتجريف الحياة المدنية في المجتمع العراقي كالتي وجدناها عند فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان.
 
هوس الاختلاف
 الرواية العراقية بعد 2003 تعكس مدى تأثير المتغيرات الثقافية على الروائي كفرد مبدع، حسب ما يبين القاص عزيز الشعباني، ومن ثم على بنية الرواية ككل، نتكلّم هنا عن بنية شاملة سواء بنية الشخصية الروائية أو بنية الزمان والمكان، إلّا أنَّ الروائي العراقي صار كمن يزدحم الكلام على فمه، من خلال هوسه في الاختلاف، مما أدّى به إلى التمرّد على الثقافة المضافة التي لم تتجذّر بعد في أعماق فكره وتاريخه الثقافي، لذلك لم يتمكّن، في ظل المتغيرات الثقافية المتسارعة، من إعادة تشكيل السمات الجديدة لثقافتنا، مع الإبقاء على الموروث الثقافي، من دون أن يتعرّض لتداعيات المرحلة.
ويرى الشعباني أنَّ أغلب شخصيات الروايات العراقية الحديثة نشأت كردّة فعل من قبل الروائي أو إصراراً منه على فرض سلوك معيّن يخالف سلوك الشبكة الثقافية الجديدة، أو العكس، بذلك أنتج شخصيات مشوّهة وأمكنة هشّة وأزمنة قلقة، لم يستوعب هذا الكم من المتغيرات الثقافية الناتجة عن المتغير الديني أو عن المتغير الاقتصادي أو السياسي، لذلك ظهرت روايته مرتبكة، فلم يقرأ حتى الآن حسب قوله، برغم هذه الغزارة، رواية راكزة فكريّاً، مهما حافظت على جماليتها الفنية.
 
مرونة التجريب
 ويكشف الناقد حمدي العطار أنه بعد فشل السرديات الكبرى (الماركسية والليبرالية والاسلام السياسي) في إيجاد الأرضية الثقافية لانطلاق منصات الإبداع روائياً، فإنَّ التغيير لم يحقق الأمل كلّه، مفردة الحرية وهي الأخرى كانت الاكثر غموضاً فقد جاءت مع مفاهيم غير مقبولة للروائي والمثقف العراقي فارتبطت بظل ثقيل هو الاحتلال، فشل المشروع السياسي وتبنّي المحاصصة الطائفية وتفشّي الفساد كلها عوامل أثرت في المتغيرات الثقافية، ليجد الروائي نفسه من دون  مرجعية ثقافية وانسانية!.
لم تعد العباءة الثقافية الرسمية قادرة على تغطية الأطر الإبداعية في مجال الرواية التي أوجدت لنفسها مكانة مميزة في داخل العراق وخارجه وقدمت روايات تعد نماذج متنوعة قادرة على القول ببساطة واختزال بأنَّ الجمال موجود في كل شيء ويمكن الإشارة إليه روائياً، ولو تناولنا المتغيرات من المنظور الفلسفي لوجدنا أنَّ لها من الاتساع والمرونة والتجريب ما يجعلها أن تكون أكثر إنسانية وتدافع عن الحق والعدل والمساواة بعيداً عن التماهي والذوبان.
 
الاقتراب من اليومي
 من جهته يشير الدكتور مصطفى لطيف عارف إلى أن هذه الرواية شهدت قفزة نوعية مرّت بمراحل عدّة في التطور، وقدّمت نماذج ناجحة من الأعمال الروائية المؤثرة عراقياً وعربياً.
وهناك من الروايات ما وصل الى مصاف الرواية العربية مثل ما دوّنه الدكتور كنعان مكية في (الفتنة) التي صوّر لنا بلغة شعرية سردية فوتوغرافية الواقع المؤلم الذي عاشه العراقيون في زمن الصراعات السياسية والطائفية. كما صوّر لنا الشاعر شوقي عبد الأمير في روايته "يوم في بغداد" الواقع المزري لبغداد وهي تسرق وتنهب من قبل الجماعات الإرهابية في جولته مع الدكتور مهدي الحافظ، وكيف جسّد النقد الفني في روايته.. وبهذا قال الناقد علي الفواز إنَّ ما يميز الرواية العراقية الجديدة هي أنَّها اقتربت من اليومي واقتربت من الهامشي، واقتربت من السياسي واقتربت من الأمني بمعناه الإنساني. مشيراً إلى أن هذا الاقتراب خلَّص الرواية من الكثير من النمطية الواقعية.
 
تنوّع الأساليب
 وبحسب الروائي حسن كريم عاتي، فإن المتغير الرئيس حدث أولاً في البنية المجتمعية من(سياسية/ ثقافية/فكرية/اقتصادية...)،نتيجة الغياب السريع لمهيمنات قاسية،اختفت،مع الرغبة الواسعة بعدم عودتها،فلم تعد هناك أقانيم محظور الدخول إليها ثقافياً ومعالجتها روائياً.
اختفاء تلك المهيمنات، أدى إلى اختفاء الرقيب الخارجي على النتاج الأدبي،وكان تسرّبها إلى الرواية أكثر وضوحاً في حضور ثيمات جديدة،تناولتها الرواية بالمعالجة من دون قيد،مما أتاح مساحة غير مرسومة الحدود لتلك الثيمات. صاحب ذلك المتغير،تنوع أساليب المعالجة،وأتاح فرصة أوسع للتجريب في الأساليب الفنية لمعالجة الثيمات الجديدة،أو الحرية المرافقة لإمكانية التعبير عن ثيمات قديمة.