أجنحة من قصب

ثقافة 2021/04/12
...

 شكر حاجم الصالحي 
 
هي مجموعة نصوص (نثر) أنجبتها مخاضات التجربة والحنين واستدراج الذكريات والوقوف على مثابات الماضي الجميلة بأشواق تدمي القلوب وتثير المواجع بما يكرس التشبث بأيقونات الجمال والتغني بكل ما يبعث في النفوس الأمل والطمأنينة لحاضر ومستقبل أفضل، وتذكرني نصوصها ببيتين من شعر حبيب بن أوس الطائي/ ابو تمام ( 803 – 845) فيها من التوجع والحنين ومن الوفاء الذي لا نظير له:  نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبّ إلا للحبيب الأولِ كمنزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزلِ، فـبتول شامل امرأة ميسانية أجبرتها المقادير على ترك حارات طفولتها وملاذات نشأتها لتستقر في غرب الكرة الأرضية (أميركا) بعيداً من الأهل والذكريات، ومع ذلك البعد ما غابت عن خيالها مدينتها الأولى (العمارة) وظلت تعيش في تفاصيل حياتها اليومية، وازاء ذلك ظلت تجتر الذكريات الحارقة وبمهارة عراقية مبدعة، انجزت هذه النصوص المكتوبة في ظل وحشة الغربة، ولهذا جاءت (أجنحة من قصب) تنبض بصدق المعاناة والدموع المعجونة بالخشية من المستقبل الغامض، الذي ينتظر بتول شامل في ديار الغربة القاسية، ففي (ست قطرات ندى) تفضحها أشواقها وتحاصرها ذكرياتها: لصباحي طقوسه اليومية بعد سماع ترتيلة من الذكر الحكيم : ارتشاف فنجان قهوة محلّاة بقصيدة أو كوب شاي معطرٍ بعزف ناي من القصب على وقع مجداف مشحوف سومري في أهوار العمارة .. ص23.
والمتفحص لهذا النص المكثف يكشف بوضوح عن مدى تعلّق بتول شامل بجذورها الأولى وعاداتها وقيمها الأصيلة وحضور شواهد حياتها المفعمة بالأمل والتفاصيل الصغيرة: الذكر الحكيم، فنجان قهوة، كوب شاي، ناي من قصب، مشحوف سومري، أهوار العمارة، فبتول حملت معها كل هذه الذكريات والأفعال الى موطنها الجديد، لتظل على صلة حية برحمها الأول وثديها الطاهر، الذي فاض عليها شوقاً وحنيناً وشجناً وظلت العمارة حاضرة في خيالها مستفزة لأيامها، ومن هنا نجد صلة حميمية مع (أول منزل) كما هو عند (ابو تمام) وسائر شعر العرب في الوقوف على الأطلال والنواح على فراق الأحبة وجفاء الأيام، وفي (عشر محاولات لكتابة الهايكو) تظل العمارة في ضمير بتول شامل حيّة نابضة ومثار فخر واعتزاز فهي:  العمارة مدينة عابرة للأزمنة من ألواحها الطينية ابتدأ كتاب الحضارة أول صفحاته قال التأريخ. ص45 ومثل هذا الاعتزاز كثير في (أجنحة من قصب) فالنصوص محتشدة بمفردات تذكرها على الدوام بالمنابع الأولى: أهوار، مشاحيف، قصب، اكواخ، بساتين، خبز، تنانير، ورغم غنى حياتها الجديدة فإن بتول متعلقة بروافد نشأتها وملاعب طفولتها الجميلة، ولن تستطيع الإفلات من مفرداتها، وفي (المرايا) تلخص بتول شامل رؤيتها وتوقد مجامر أشواقها رغم حياتها الجديدة، إلا أن تضحيات ابن الوطن لن تغيب عن ضميرها، فتقول في (ما قالته الأهوار للمشحوف) ما يوجع ويدمي القلب ويُعلي شأن الشهادة: كلما سقط شهيد عراقي/ أشعر ان سماء قلبي/ خسرت نجمة / فأتضرع لله/ أن يجعله/ قمراً/ في الفردوس الأعلى/ مخترقاً بنوره السماوات/ ليضيء الأرض.. ص80.