د.عبدالخالق حسن
منذ إسقاطها نظام الدكتاتور في 2003، مرت العلاقة العراقية بأميركا بالكثير من المحطات، التي تأثرت بمد وجزر المواقف والتحولات السياسية والاجتماعية، المحطة الأبرز التي انقسم بسببها الموقف الشعبي والنخبوي من أميركا كان طبيعة التوصيف للوجود الأميركي بين من يسمي ما صنعته تحريراً، وآخر يراه احتلالا
وبسبب هذا الانقسام التبست الأوضاع الداخلية، التي أفرزت عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية ومن يتعاون معها، وبمرور الوقت اختلفت التوصيفات لهذه القوات، حتى صار من يسميها بالأمس قوات تحرير يطلق عليها قوات احتلال، وبالعكس.
جزء مهم من هذا الاختلال في التوصيف يعود إلى السياسة الأميركية نفسها تجاه العراق، التي كانت تتأثر باختلاف الإدارات والتقاطعات التي ترسم الموقف من العراق بين خطوط هذه الإدارات. فمعروف أن دوائر الاستخبارات لها منطقها وسياستها الخاصة من العراق، وهذا ينطبق أيضاً على البنتاغون ووزارة الخارجية، بل وحتى ما ترسمه دوائر البحوث والصحف هناك يختلف ويؤثر في مسارات التعاطي الأميركي مع العراق.
كذلك فإن تقاطع المحاور الدولية في العراق أثر كثيراً وما زال يؤثر في النظرة إلى العلاقة مع أميركا، بما يجعل تقلبات الفهم لهذه العلاقة أمراً منطقياً، ما دام أن أميركا نفسها تتحول سياستها في العراق بين مدة وأخرى.
بعد انسحاب أميركا في 2011 توقع الجميع أن تتبنى أميركا الموقف، الذي اتخذته إدارة بوش التي كانت ترى أن العراق هو رهانها الأهم في نشر الديمقراطية في المنطقة، لكن الذي حصل أن أميركا خذلت العراقيين حين جعلت إدارة أوباما العراق في آخر السطر ضمن احتمالات التحولات الديمقراطية في المنطقة، لأنها ألقت بثقلها على تحولات الربيع العربي واستغنت عن تجربة العراق، التي ارتبكت كثيراً وشهدت خلافات داخلية عميقة انكسرت بسببها الحلقات الاجتماعية، لنكون بأزاء لحظة فاصلة هي لحظة «داعش».
مع اجتياح عصابات داعش الارهابية لمحافظات عراقية بصورة كاملة، كان نجم ترامب بدأ يصعد، مع تبادل اتهامات مستمر بين الحزبين في أميركا عن المتسبب بضياع جهود أميركا في العراق، مع هذا عادت أميركا لتتواجد عسكريا بطلب من حكومة العبادي، وبعد التحرر من عصابات داعش الارهابية، عاد الحديث عن توصيف الوجود الأميركي، مع ارتفاع أصوات تدعو إلى بناء علاقة احترام بين أميركا والعراق، تبدأ بانسحاب أميركي شامل. توقع الجميع أن تبدأ جولات الحوار خلال حكومة عادل عبد المهدي التي واجهت حركة احتجاجات شديدة تسببت بمغادرتها، ليتم إيكال الأمر لحكومة الكاظمي التي عقدت ثلاث جولات من الحوار مع أميركا.
المطّلع على بيانات هذه الجولات سيجد أن هذه البيانات تتحدث عن علاقات تصل إلى درجة التحالف العميق، لكن بماذا ستختلف هذه الجولات من الحوار عن الحوارات التي رسمت اتفاقية الإطار بين البلدين سنة ٢٠٠٨ والتي كان العراق يعوِّل عليها كثيرا، لكنها بحسب كل الحكومات المتعاقبة لم يتم تنفيذ الجوانب الأهم فيها إلى درجة، أصبحت فيها الاتفاقية مجرد ملف موضوع في أرشيف الدولتين من دون تفعيل.
إنَّ الأفق الذي تتحرك فيه العلاقة بين أميركا والعراق تمتد فيه الكثير من الاحتمالات، لكن الأهم هنا هو أن تتحول هذه الاحتمالات إلى وقائع ترسم الثقة من دون اختلال، مع مراعاة عناصر الضغط التي تثيرها المحاور المتقاطعة في العراق الذي تضاعفت اليوم أهميته، كونه يمثل أحد أهم مرتكزات الصراع المستقبلي بين أميركا والصين.