تراثها المتجدّد.. خطوة نحو الفهم

ثقافة 2021/04/13
...

د. نصير جابر 
 
غدا الأربعاء (14) نيسان تمرّ الذكرى الـ (35) لوفاة الكاتبة والفيلسوفة والناشطة النسوية الفرنسية الشهيرة سيمون دي بوفوار(1908-1986) الصبيّة متّقدة الذكاء، الخيالية، الحالمة التي بدأت حياتها بأمنية (الرهبنة)، فقد طمحت بشدة في أن تكون راهبة في دير ما. ثم سرعان ما حولتها صدمة الحرب العالمية الأولى بما تركته من أثار نفسية واجتماعية كارثية إلى اتجاه آخر تماماً وبعيد جداً عن انطلاقتها وأمنيتها الأولى.
وهذه الذكرى فرصة سانحة وحقيقية لتأمل إرثها الأدبي العميق وتراثها الفلسفي الكبير والاشكالي ومواقفها المهمة والعميقة من قضايا عصرها الصاخب، فهذه المرأة واحدة من أشهر وأعظم نساء القرن العشرين وأكثرهنّ تأثيرا، واستطاعت أن تظهر وتثبت وجودها بفرادة وتميز على الرغم من ارتباطها الطويل مع الفيلسوف الكبير جان بول سارتر (1905-1980) رفيق عمرها الذي نافسها شهرة وحضورا، إذ شكّلا ثنائيا متفردا حاول أن يقدّم رؤيا جديدة محدّدة وخاصة جداً عن علاقة المرأة بالرجل في عصر لاهب مكتظ مزدحم بالأفكار والرؤى والمجاعات والفلسفات والحروب الكونية والثورات والاكتشافات الهائلة، فكانت حياتهما أنموذجا لأفكارهما المتشابكة جدا والمعقدة في أحيان كثيرة.. أفكارهما عن المشكلات الوجودية الكبيرة التي شغلت عقل الانسان منذ أوائل بواكير الوعي البشري وحتى الآن ومنها: القلق الإنساني الهائل.. التمرد..المصير..الشعور بالعدم ودور الإنسان في صنع حريته وجدوى وجوده في هذا الكون، وكان لوجودهما في باريس عاصمة الثقافة العالمية -كما ينظر لها العرب- ومصدّرة الأفكار والموضة والفنون إلى أنحاء العالم كافة الدور الفعّال في اعطاء حضورهما الثقافي تأثيرا رمزيا أكبر وأبلغ على الأجيال التي تناغمت وتفاعلت مع(الوجودية) محيطهما الفلسفي وحيز اشتغالهما العلمي والمعرفي مع لحاظ تاريخي أراه الآن يتجلى بوضوح أكثر وهو أن أغلب من تأثر بالوجودية تعامل معها كـ (موضة) باريسية مبهرة ومدهشة سرعان ما تتبدل حالها حال كل ما يأتي من باريس، ولكن الحقيقة التي يجب أن يعترف بها كلّ من ينظر الآن في الألفية الثالثة لتراث دي بوفوار هي أنّ عملها الأهم والأصيل والأكثر تأثيرا هو نضالها المهم عن قضية المرأة، فقد كانت طروحاتها من العمق بحيث شكّلت الرؤي والأساس المتين والراسخ لكلّ النسويات في العالم، حتى عدّت هي وعن جدارة إحدى رائدات النسوية المؤسسات الفاعلات داخل هذا الحقل العملي والانساني المهم،  في حين عدّ كتابها الشهير (الجنس الآخر) المنطلق الأول للنسوية في العالم.
في عام 1967زارت سيمون مصر بصحبة سارتر تلبية لدعوة من الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم(1898-1987)، ومن مجلة (الطليعة) التي كانت تصدرها مؤسّسة (الأهرام) ويرأس تحريرها الأديب لطفي الخولي(1929-1999) وقد استمرت الزيارة(16) يوماً وفيها التقت بجمال عبد الناصر وزارت مناطق مختلفة منها قرية مصرية عُرِف أهلها بنضالهم ضد الاقطاع وبغضّ النظر عن ما قيل عن هذه الزيارة وكثرة ما كتب حولها هناك ملمح بسيط وجزئية هامشية دار الحديث حولها قبيل وصولهما إلى مصر أجدها تشكّل نظرة بعض العرب إلى دي بوفوار فقد سمعت مرة من مثقف مصري كبير أن القائمين على تفاصيل الزيارة احتاروا في غرفة الفندق التي سينزل بها سارتر وسيمون، هل ستكون مشتركة أو منفردة بوصفهما غير متزوجين رسميا؟.
ويبدو لي هذا الأمر على بساطته هو من يشكل  نظرة العقل العربي لكل وافد جديد فهو دائما يبحث عن جنبة أو جزئية لا علاقة لها بالحدث الرئيس ليبني عليها مواقفه من الجديد.   
والغريب أن ذلك الموقف كان عام 1967 ومصر في أوج تفتحها الثقافي والمعرفي بعد سلسلة من التغيرات الاجتماعية الكبيرة.
والحقيقة أن الخوف من (سيمون دي بوفوار) ظاهرة وجدتها  في كثير من الكتابات العربية بوصفها امرأة ضد الأمومة وغيرها من الاتهامات التي ينتقيها العربي من حياة الأعلام، ومن ثمّ يبني عليها مواقفه في رفض   فكرهم جملة وتفصيلا.
فلا يهم العربي مثلا أنها واحدة من أهم العقول الفكرية ومتخرجة في أعرق الجامعات العالمية (السوربون)، ولها من المؤلفات الرصينة ما يستحق الفخر..وإحدى أهم المدافعات عن حقول المرأة في القرن العشرين. 
في لقاء تلفزيوني معها ترفض سيمون بشدة الربط بين حياتها الخاصة وعملها الفكري والعلمي، وبين الآراء التي تطرحها في كتبها.لأنّ هذه الآراءهي نتاج بحث معمّق في التاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد وعلم الاجتماع  ولا علاقة لها بمزاجها الشخصي وسلوكها اليومي.
إنّ طبيعة الفكر الذي انتجته سيمون دي بوفوار لا يختلف عن أي فكر انساني آخر له ماله وعليه ما عليه، وهو قابل للنقاش والأخذ والرد والنقد، ولكنه وهذا ممّا لاشك فيه ولا ريب قد أسهم في دفع عجلة الانسانية خطوة مهمة نحو تقبّل الآخر وتفهمه.