كنا نخطو على الأرض بخفة

ثقافة 2021/04/14
...

 هدية حسين
 
إنها رواية الأساطير والخرافات، وتاريخ طويل لمدن وقرى اندثرت أو في طريقها للاندثار، غزاة ومحاربون أشداء وقصص حب ونهايات مفجعة أو غير متوقعة، حياة تبدأ وتزدهر ثم يجرفها موج الأحقاد والثأر والدمار، كأنها الحياة مجتمعة في كل تناقضاتها وعجائبها، كل ذلك وغيره في رواية (كنا نخطو على الأرض بخفة) لمبدعها الإيطالي سيرجو إتسيني، وهي آخر رواياته، ونُشرت بعد موته غرقاً في العام 1995.. جزيرة سردينيا الإيطالية (مسقط رأس الروائي في العام 1952) هي البؤرة الرئيسة التي تدور حولها الأحداث منذ أن حط عليها (راقصو النجوم)، تاريخ يمتد لأكثر من ألف عام من حياة هادئة الى غزوات وحروب واختلاط ثقافات وتغيّر أنماط في الطباع وفي الهويات جيلاً بعد جيل، حيث لا يكون التاريخ أرضاً للحقيقة، وتندرس أشياء كثيرة مما يدعو أنطونيو سيتسو (حارس الزمن) الى تخليد تلك الحقائق حين يأتمن طفلاً من الجزيرة في الثامنة من العمر على ذلك التاريخ من خلال ما يسرده، إذ تترسخ الحكايات في ذاكرة الأجيال المتلاحقة لكي تبقى هوية السردينيين عصية على المحو.
تعد رواية (كنا نخطو على الأرض بخفة) من أهم أعمال سيرجو إتسيني بحسب النقاد، لما حفلت به من ذاكرة لتاريخ طويل وحكايات متداخلة وزاخرة بالأحداث والطقوس لقوم هم أصحاب الأرض، كانت السماء شاهداً على أفعالهم وحياتهم السعيدة قبل أن يهاجمها الغزاة من فينيقيين وليغوريين وبرابرة وجرمان وغيرهم، ومن عصر الحياة الهادئة الى عصور الحروب والصمود في المعارك أو التقهقر والهروب أو الاستعباد ليتحول أهل سردينيا الى أسرى وعبيد يُعرضون أمام الناس في مواكب، لكن المقاومة تستمر، وما إن تهدأ الأمور حتى تتفجر من جديد، والحكايات لا تقتصر على الحروب وفظاعاتها بل سنتعرف على الكثير من العادات والتقاليد والطقوس الغريبة والغناء والرقص والطبيعة القاسية، وأيضاً هناك قصص حب وأحلام وخيبات، ومن أجمل الحكايات حكاية أرار ابنة التاجر الثري الذي ساوم على بيعها من أجل المال وعندما طلب منها الاستعداد عند الفجر لتذهب مع مشتريها، هربت ولجأت الى (إيلوي) عازف المزامير الذي كان الناس ينتظرون عزفه ليلاً ليرقصوا ويغنوا، هرب إيلوي مع أرار وتنقلا بين القرى والموانئ، هو يعزف وهي تغني، وقام أبوها من جانبه بتجهيز حملة لمطاردتها، صرف الكثير من المال ليعيدها لكنه لم يعثر عليها فمرض ومات، وعلى الرغم من مرور عشرات السنين على حكاية أرار وإيلوي، فمازال الناس (يقولون إنه حتى الآن، كل ثلاثين عاماً، تطوف أرار وإيلوي حول الجزيرة في زورق، وهما يعزفان المزمار، ومن يبتسم له الحظ  السعيد ويسمعهما يجد كنزاً) ص 49.
ومن قصص الثأر قصة (سيفا) الفتاة البكر ذات الحسن النادر، و(راي) الشاب الوسيم الذي قتله أحد الرجال لأنه رفض الزواج من امرأة قريبة للرجل، ثم شاهد سيفا فطاردها واختطفها لتصبح سجينة في بيته، لكن أخت راي قررت الانتقام منه فتم قتله على يد امرأة أخرى وتم تحرير سيفا، وسيظل الثأر قائماً ودموياً لمدة مئة عام.. وسنقرأ الكثير من القصص التي تتوالد خلال أكثر من ألف سنة، ومنها قصة القاضي أوراك الذي كان يسعى لترسيخ الحكمة والعدالة، وحين امتد به العمر ولم يعد الناس يأتون إليه ليسألوه، راح يجلس على الشاطئ ويتأمل ويطرح الأسئلة على نفسه، وأخيراً تنازل لحفيدته أورسا لكي تكمل المهمة من بعده إذ كانت الوحيدة من بين أحفاده من تطرح الأسئلة بذكاء. 
أما ثورة الشحاذين فلها حكايتها، لقد تظاهروا ضد سلطة ماريانو التي لا تنتهي، خطبوا في الناس (منذ متى حكم ماريانوا؟ لم تكونوا قد ولدتم بعد، ولا حتى آباؤكم كانوا قد ولدوا، ولم يكن آباء آبائكم قد ولدوا أيضاً بينما كان ماريانو يحكم، لقد مضى أكثر من مئتي سنة، فأي رجل يستطيع أن يحكم لمئتي سنة؟) ص176.
لكن ماريانو، هذا الذي حكم أطول فترة أصبح عجوزاً في النهاية، يعيش وحيداً ومنسياً في داره، ولم يمت.. وستستمر المعارك حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، إذ تواصل الصقور قنص وإصابة أعدائها لمئة سنة أخرى، وعند هذا الحد تنتهي حكايات حارس الزمن أنطونيو سيتسو فيتلقف الطفل ذو الثماني سنوات تلك الحكايات ليحكيها حين يكبر ويصبح حارساً للزمن.. الرواية أيضاً كشف لكثير من الأمور التي ظلت عصية على الفهم لأنها مرتبطة بالمجهول، ومنها الأمور الوجودية، تعدد الآلهة والشياطين، الشك واليقين، علاقة الخالق بالمخلوق، وكل ما فعلته الطبيعة بالإنسان.