الشاعرة (فرح دوسكي).. والآخر المتلفع بغيابه

ثقافة 2021/04/15
...

  د.علي حداد
في البدء: علينا أن نطيل التأمل في الكشوفات الذاتية لشخصية الشاعرة (فرح دوسكي)، ومديات استجابات النص الشعري عندها لبثها الفكري والشعوري لنقع على مساحة فحص ممكنة نجتهد في تقصي ما يخبر عنها.
 
سيلفت النظر بدءاً أن الشاعرة (علقت) اسمها الرسمي (افراح احمد محمد علي الدوسكي) الدال عندها على فرح كثير، مكتفية باسمها الادبي: (فرح دوسكي) المخبر عن فرح واحد لاغير. وقبل ذلك فقد قدّر لها أن (تعلق) ثنائية الانتساب العرقي والمناطقي المختلف بين قومية أبيها الكردية وأمها العربية، مخبرة في ذلك عن واحدية الانتماء الوطني المشترك الذي تعايشه بيوتات عراقية كثيرة.
لقد ولدت وترعرعت في أكثر البيئات البغدادية انتماء لشعبيتها، فهي ابنة (مدينة الثورة) التي عاشت طفولتها ومراحل صباها ومسعاها الدراسي فيها، لتنهي مرحلة الثانوية بتفوق عال أهّلها لأن تدرس الطب في جامعة (دلهي) بالهند، غير أن ظروف أسرتها حملتها على ترك الدراسة، والبقاء في وطنها الذي غادرته إلى الأردن عام 1998م. وهناك تبلورت إمكاناتها الشعرية وتكاملت، بما هيأها في العام 1999 أن تفوز بإحدى الجوائز الأدبية عن قصيدتها (تائه بذاتي) بوصفها أحسن نص ادبي نسوي، وليتوطدمسار اشتغالها الشعري والكتابي بعامة ـ ولاسيما بعد عودتها إلى وطنها ـ متبنية خصوصية يدركها من يقرأ أيَّاً من مجموعاتها الشعرية.
 
(1)
أرست الوقائع التي مرت بها الشاعرة فواعلها في تكوين شخصيتها على الصعيد النفسي والثقافي، فعززت جملة من القناعات التي سربتها إلى منجزها الكتابي، فهي ـ على الصعيد الثقافي ـ تكاد (تعلق) كثيراً من صلاتها المهنية بما حولها، وبصيغة اعتراضية معلنة، لتعيش منتمية إلى ذاتها بتجليات حضورها الإنساني والأدبي.ولكن ذلك ـوبكل مثبطاتهـ لم ينل من الانتماء إلى المكان والناس الذين تشاركهم العيش فيه، معلنة عن هويتها العراقية الصميم.
لقد منحها العيش في ظنك البيئة الشعبية أن تتسع حدقات وعيها وهي ترصد ما يمورحولها، لتبرع ـ طبقاً لقولهاـ في التقاط النتوءات المهملة وتصوير أدق التفاصيل المهمشة والمتشبعة بالانفعال، مجسدة بذلك وجهة من التأمل، بوصفها امرأة تهيأ لها أن تكون أديبة تعاين ما حولها ببصيرة خصيبة.
(2)
صدرت للشاعرة ثلاث مجموعات شعرية هي: تائه بذاتي 2007، أحاول دحرجة الأيام 2014، فارغة من التصفيق يدي2019. 
وتلزمنا قراءة تجربتها أن نقف ملياً عند بعدين مركزيين لهما سمت التذكير، ونعني بهما: (الرجل) و(الوطن) اللذين تبديا فاعلين في نصوصها كلها. لقد أهدت مجموعتها الأولى (تائهٌ بذاتي) إلى (من اختار أن يتوارى خلف حُجبٍ كثيفةٍ من الضباب والدخان)، وسيكون أفق التأويل مشرعاً لأن يكون ذلك (الآخر) كليهما: الرجل والوطن، وهما الممعنان في خلق ارتباك رؤيتهما، لا على مستوى الاحتياج العاطفي الذي تحمله لهما بل في ذلك التشكل المهيض الذي يواجهانها به، وبما (يعلق) صورة أحدهما ليستبد الآخر، الذي ستتلقاه عبر تأكيد ذاتها الأنثوية الجمعية التي تساوقت فيها مشاعرها بين الرفض الأبي والقبول الطيّع، والتمرد المهيض والاستجابة المتمناة، والحنين الأنثوي لحياة غير هذه التي تعاورت وجودها: (تعال/ اغمر وجهك مابين المسافة والوقت/ وراقصني كالغجر).. مؤشرة مساحة لهفتها إليه: (سأموت عطشاً ما بين السيف والجدار/ افتح الأزرار وضمني/ ودع النساء تهتف)..  لأنها لا تجد اكتمالها الأنثوي إلا بوجودها معه: (ليس بالإمكان أن أكون أنثى لولا أنفاسك / كلما بردت/ استطالت شرارة تلبست بي).
ولكنه متوارٍ في حجبه، ولم يترك لها من خيار سوى أن تنتظره زمناً طال أمده حدّ اليأس منه، لتنشغل عنه بالوطن المثخن بالجراح مثلها، والماكث كما هي في لجة المكان ومكابداته. هذا الوطن الذي تماهى وجودها معه، فتخاطبه: (وطني يغرد في حنجرتي اسمك). ولكن الصورة التي تحلم بها عنه محجوبة، بما يثير تساؤلاتها: (ماذا يخبئ لنا هذا الرصاص المتكدس في جيوب حاقديك؟ /كيف ارتمت على وجنتيك كل هذه الحراب/ وعلى جبينك الوضّاء يصدح الضياع وينبت الخراب؟).