حيوية اليومي بين الرمزيَّة والأسطوريَّة

ثقافة 2021/04/15
...

  ناجح المعموري
الشعر نقاوة الأشياء التي يرصدها الشاعر ويقشرها، فتبدو مدهشة ومتوترة، حاملة كل ما هو غير مألوف، على الرغم من أن الأشياء المعبر فيها بالصورة هي المعيش، المرصود، لكن ذوبان الثقل الجاثم فوقها، يكشف عن خفاياها ويلفها برفق مرة ثانية لأن الوضوح الكلي إفساد للشعر. وهكذا السياق الجديد في التجربة الشعرية العراقية، الملوحة لحضورها القوي. 
والشاعر سلام مكي يعيش متصالحا مع الوجود، لكنه غير متوافق كليا، بل مشحون بالتوتر والقلق، الاضطراب. لأن هذا من خصائص التجارب التي تعيش وسط وجود شعري، بمعنى التواجد غير المهيمن والطاغي كليا، بل المتمتع بقوة حضور تملك فرصا عديدة لإعادة ما يراه الشاعر ويعيد عجينته، ليقدم لنا ما ذهب إليه. 
 
مثلما سيادة التوتر والاضطراب، للحلم طاقة تحفيز المخيال من أجل الوصول للأسطورة. 
هذا النوع لا يشبه ما عرفناه منه، وإنما حضور الاسطورة بجزئيات اليومي، صعب الالتقاط والتقشير، إنها أحلام ترسب فيها التاريخ المزدحم بالوقائع والمكتظ بالسرديات، فتتدخل وحدات التاريخ مع الغرائبي، ليقدم شذرات شعرية الذي توغل فيه الشاعر وذهب إليه، بوصفه حالما مزدحما بالأسطورة والسحر، وهما مغذيات خصائص الكلام الذي يبدو أكثر توترا ودهشة مع ما فيه من بساطة. ومثلما قال كاسبير: ما نسميه بالأسطورة هو شيء نشترطه وتنجزه فعالية اللغة، وهو في الحقيقة نتاج نقيصة أساسية، وضعف متجذر في اللغة، فكل هذا الغموض وهذا الاشتراك في الكلمات يكمن مصدر جميع هذه الاساطير.
الميثولوجيا شيء لا مناص فيه، فهو طبيعي، لأنه ضرورة قائمة في صلب اللغة، إذا تصورنا اللغة بصفتها الشكل الخارجي لتحلي الفكر، وفي الحقيقية الظل المظلم الذي تلقيه اللغة على الفكر كما قال الفيلسوف كاسبير. يعرف الشاعر الحساس بأن الاسطورة مغذية للشعر وقائمة بكل ما يراه، ومعيشة وسط المرئيات ومنثورات الاشياء، لأنها لا تريد أن تكون عارية، بل مستترة، محتشمة حتى تلزم من يبحث فيها، يركض أيضا وراءها، لأنها ذات خصائص سحرية. الأسطورة كلام فيه تمثيلات غرائبية، ووقائعية ولا بأس تداخلهما معا، لأنهما ينجذبان بقوة ساحرة، مهيمنة تجعل في سيرورة الاسطورة طاقة دالة على وحدة الكلام التي هي وحدة الدلالة. لحظة يتحول اليومي غريبا وفيه مكامن الاثارة والاندهاش، في تلك الأسطورة:
 
أشتهي
أن أطرق الأبواب في الليل 
وأهرب
ثم ألتفت
فلم أجد أحدا يلحق بي
أشتهي أن أشتم
كل من أصادفه
حتى لو كان عينا لعشتار
أو عشتار نفسها
وأنتظر 
أن ترميني بنظرة قاتلة .. ص 65
يبدو الشاعر سلام مكي أكثر حضورا في حياة تدنو منه، ويلتقط منها ما تهفو إليه الشعرية وتلوذ به، حتى يتداخل اليومي والمتخيل، لأن الشعرية لن تحضر بعيدا عن المتخيل، لأن الطاقة الخفية الحاضنة للأحلام التي تطفو أحيانا فوق المألوف وتتلفت كي تتحول إلى جزئيات أسطورية. مبرقة بتعدد المعنى وتنوع الدلالات. ويتوفر لها المجاورة مع بعضها البعض، صوت غرائبي يلوذ به الواقعي واليومي.
الشاعر سلام مكي في تجربته الشعرية الثالثة يلتقط ما هو مذوب ليجعل منه ما هو خاص به، وليس سهلا الدنو من أسرار هذه التجربة بسبب عمقها الطافي، كالنور كاسيا لها. إنه يعيد إنتاج الارتباك واللا معقول ويومئ به. أسطوريات محتشدة في كثير من نصوصه المفضية لأحلام العود الأبدي، الرمزي، ويشحن تفاصيل اليومي بالادهاش والقبول بالذوبان في اللغة الشفافة، المنتجة لشعريات ضاجّة بالمغايرة من أجل مقامة الذوبان والتلاشي وسط الغرابات التي تؤسسها اللغة بانزياحاتها.
 
بعد أن استنفد ذخيرته 
على بقايا زوجته
ارتدى   عباءته  الهوائية  ورحل
في تلك الساعة
بدا الشارع وكأنه
ضريح مهجور
لكنه مستعد
لاستقبال طعنة
أو صفعة على الأقل.
كل شيء آخذ بالموت
إلا صور الموتى
تنمو، وتزهر
صوراً لموتى
لم يولدوا بعد
في تلك الساعة
ثمة عجوز
تحاول زرع صورة طفلها
فوق الرصيف المزدحم..
النواتات الصغيرة تومئ لمكامن اختفائها. والخلايا المشكلة لوحدات شعرية صلتها واضحة وهي من خاصياته المميزة له عن غيره المولع باليومي كذلك. لغة سلام مكي أنثى يزاول فحولته في اختيار طاقته في خلق السياق الذي يريده. وأعني به الكلام الذي علم به سلام ووصل إليه. إنه نتاج ثنائية العلاقة بين الفحولة والانثى، بين الماء والارتعاش المفاجئ، بمعنى اللغة وآلات التحكم بها من خلال الشعر. 
الشاعر سلام مكي طاقة ابتكار للكلام الخاص به من نوع السحر غير المكشوفين والمستتر بالظلمة الكاشفة عن الطاقة بالعلاقة مع الانثى/ اللغة.
 
مملكتك جسد شهي
لا ينضب مهما اغترفت من أنهاره 
*
لا معنى لجلوسك على خوازيق الوقت
فيما الكل تخلى عن مؤخرته 
لا معنى لسكب أطفالك في النهر المقدس 
والحروب تشربها فيما بعد 
لا معنى لبقائك على قيد السرير 
وقد ساحت رجولتك بعيداً عن مصباتها 
لا معنى إلا للنهر الذي سقاك كؤوساً من النشوة.