الطبيعي والميتافيزيقي في قصيدة (عنكبوت صبور وهادئة) لوالت ويتمان

ثقافة 2021/04/15
...

  محمد تركي النصار
 
(عنكبوت صبور وهادئة) قصيدة للشاعر الاميركي الأكثر تأثيرا في مسيرة الشعر العالمي المعاصر  والت ويتمان، وهي من القصائد التي من الممكن قراءتها بعدة قراءات تنتج عنها تأويلات تلتقي عند نقطة محددة. تصف القصيدة مقطعا لحظويا في حياة عنكبوت والبحث الناتج من تأويل الشاعر لهذا المشهد المألوف، فالمستوى الأول يعتمد وجودا فيزياويا والفعل الموصوف هنا هو فعل طبيعي: عنكبوت يطلق خيوطا على حافة صخرة، وهذا الكائن يمثل عالم الطبيعة الذي يرفع الشاعر وجوده الى مستوى أعلى، أي الى مملكة الخيال والتفلسف الشعري في المقطع الثاني خالقا توازيا بين تأملات الروح وعمليات بحثها مع صورة العنكبوت.
 وإذ يركز ويتمان استكشافاته على تأملاته الفلسفية تتحرك القصيدة باتجاه مملكة الروح حالما يربط بين حركتها وحركة العنكبوت إذ يتوالى فعل المجاز في القصيدة، فالعنكبوت تمثل الروح وخيوطها هي عمليات البحث والاستكشاف ومحاولة الربط والاستدلال على مناطق أبعد من ظاهر المشهد بما يؤلف من شبكة الخيوط استعارة كلية للقصيدة. وهذه القصيدة تقدم مثالا مهما لما يمكن أن نسميه التركيب الرمزي، فهي تستخدم هذا البناء في خلق حوار بين مقطعي القصيدة.
في المقطع الأول يصف المتحدث كائنا بنوع واف من التفصيل، وفي الجزء الثاني تبرز دلالة ومعنى وجود هذا الكائن، فما يبدأ حياة ساكنة يتحول بسرعة الى مجاز مشع بالدلالات والحركة.
ويستخدم ويتمان وهو من رواد الشعر الحر المؤسسين في الولايات المتحدة بناء مختلفا عن البناء التقليدي. ففي المقطع الاول يقدم وصفا للعنكبوت التي تطلق خيوطها بحركة مستمرة، والمقطع الثاني يعطينا تأملات المتحدث عن حركة هذا الكائن مقارنا بينها وبين حركة الكائن البشري الروحية، والابيات الاولى من كل مقطع تمثل علامات تقدم الموضوع أو الفكرة بما يساعد القارئ على تتبع الثيمة الأعمق ونموها.
كيف يمكن للروح أن تشبه العنكبوت؟. 
لنلقي نظرة على كيفية تقديم ويتمان للعنكبوت، قبل أن يظهر هذا الكائن في جسد القصيدة نعرف انها وهنا نستخدم التأنيث هادئة وصبور، وهما صفتان ايجابيتان:
 
عنكبوت صبور وهادئة،
رأيتها، تقف منعزلة،
على صخرة، صغيرة 
وهي تستكشف مايحيط بها من فراغ شاسع
مطلقة سيلا متواصلا من الخيوط من نفسها،
وهي تفككها بسرعة ومن دون تعب.
 
في البيت الثاني يصور المتحدث حالة العنكبوت (رأيتها تقف منعزلة على صخرة  صغيرة).. هنا نحن ازاء فرضية البداية، عنكبوت وحيدة تجلس هادئة على الحافة. من هنا تبدأ الأشياء بالحركة: (رأيت كيف تحاول التعرف على الفراغ الشاسع المحيط بها) يشكل هذا البيت موازيا للبيت السابق والمتحدث هنا من يراقب حركة استكشاف المحيط الشاسع.
يضع ويتمان هنا الحياة الساكنة في حركة واقعية دائمية متدفقة وهي حركة تخلقها العنكبوت من تلقاء نفسها وهنا تتوفر لدينا عناصر الاستعارة كلها وكل مايحتاجه الشاعر هو ان يجعل هدف هذه الاستعارة واضحا ومفهوما. 
حقا ان التوازي بين العنكبوت في المقطع الاول والروح في المقطع الثاني هو توازٍ شامل فالمحيطات اللانهائية للفضاء التي تحيط بروح الشاعر تشبه الفراغ الممتد الذي تحاول العنكبوت استكشافه باطلاقها سيلا من الخيوط التي تمثل نوعا من الارتباط والبحث عن سبيل للتواصل حتى لو كان ذلك ببعده غير القابل للتحديد العقلاني.
وكما أن العنكبوت يطلق خيوطه بلا توقف فإن الروح تتأمل وتغامر، وترمي أيضا خيوطها اللامرئية باتجاه النجوم لتربطها ببعضها وتستكشف الرسائل بين مجرات الضوء، هنا يبرز جانب البحث الميتافيزيقي الذي يعكس سعي ويتمان للربط الجدلي بين ماهو مادي وماهو ماورائي طارحا الاسئلة الملحة للروح وهي تسبح في مجرات الكون الشاسع:
 
وأنت ياروحي، حيثما تقفين
 وحولك محيطات لانهائية  من الفضاء
تتأملين بلا توقف، تغامرين
تطلقين خيوطك باحثة عن النجوم 
لتوحديها مع بعض.
 
شيء آخر يستحق الاشارة وهو ان ايقاعية القصيدة (الواضحة لقارئ النص الانكليزي) تعكس افعال الروح والعنكبوت معا، فويتمان هو كما قلنا يكتب الشعر الحر، وهذا لايلغي الوزن لكنه أكثر مرونة في استيعاب تعدد الأوزان وايقاع الحياة اليومية التي يرتفع بها الى مستوى الشعر.
الثيمة المركزية لقصيدة (عنكبوت هادئة وصبور) هي الاحساس بالعزلة وبالرغم من الثيمات المتوازية مثل الروحانية والاستكشاف فإن الوحدة تظهر جلية، فكلا العنكبوت والمخاطب في القصيدة يتم تصويرهما كائنين منعزلين وسط فضاء واسع ولانهائي. وصورة العدم الشاسع الذي يحيط بهما ربما تعمد ويتمان استخدامها كي يخلق هذا الاحساس العالي بالعزلة، وهذا يبدو ضروريا لتحقيق الهدف الفلسفي والروحي الذي يسعى الشاعر لتحقيقه.