عطية مسوح
كان النصف الأول من القرن العشرين زمنَ نهوض الصحافة العربيّة وازدهارها. وكان ذلك جزءاً من النهضة العربيّة العامة التي شملت جوانب الحياة المختلفة، ولكنه الجزء الأكثر تأثيراً في الوعي النخبوي والشعبي، والأبقى أثراً بعد أن أخذت مسيرة النهضة تتلكأ وتتعثر وتتوقف.
لقد ظهرت الصحافة العربيّة في عدد من الدول في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولكنّ تركّزها ونهوضها الكبير كان في مصر أكثر من سواها، وقد يكون لذلك الأمر أسباب متعدّدة، لعلّ أبرزها أنّ فسحة الحرّية في مصر كانت أرحبّ ممّا هي عليه في البلدان الأخرى، والصحافة لا تزدهر إلاّ في مناخ حرّيّة التفكير والتعبير . ما نريد الحديث عنه في هذه المقالة هو أن أهمّ ظاهرة في عالم الصحافة العربيّة الغنيّ في تلك المرحلة هي أنّ مؤسّسي الصحف والمجلاّت الفكريّة والأدبيّة والسياسيّة هم من كبار المفكّرين والأدباء. كان المفكّر أو الأديب يُنشئ المجلّة أو الصحيفة ويشرف على تحريرها، وقد تحظى الصحيفة، ولاسيّما السياسيّة، بدعم حزب أو جهة سياسيّة، فتأتي معالجاتها قريبة من توجّه من يدعمها، ولكنها تحافظ على شيء من الاستقلاليّة النسبيّة التي توفّر حدّاً معيّناً من حدود حرّيّة الرأي والتفكير.
ولعلّنا نؤكّد ذلك ببعض الأمثلة، فأهمّ المجلّات التي ظهرت في الفترة المذكورة أسّسها جرجي زيدان ورشيد رضا وإسماعيل مظهر وسلامة موسى وأحمد أمين وأحمد حسن الزيّات وطه حسين وسامي الكيالي.. وأهمّ الصحف أسّسها سليم تقلا وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وسواهم. وكلّ من ذكرناهم كانوا أعلاماً في دنيا الفكر والأدب . لم يكن لدينا في ذلك الزمن صحفيون متخصّصون درسوا الصحافة بوصفها علماً وفنّاً، ولكن كان لدينا مفكّرون وأدباء احترفوا الصحافة وأحبّوها وكرّسوا لها قسماً كبيراً من الوقت والجهد، فكانت وسيلتهم للتأثير في الرأي العام وصناعته. كان شكل الصحيفة أو المجلّة متخلّفاً قياساً بما هو عليه اليوم، ولكنّ مضمونها الثقافيّ والمعرفيّ كان أكثر عمقاً وغنىً. فلقد احتضنت المجلّات الأبحاث الفكريّة والفلسفيّة العميقة، ونظريّات الحكم وإدارة المجتمع، والأبحاث المتعلّقة بنظريّة الأدب، وحملت الصحف أفكار الكتّاب والمفكّرين، فجاءت المقالات القصيرة كثيفة غنيّة عميقة، والكثير من كتب كبار المفكّرين هي جمع لمقالات منشورة على شكل زوايا صحفيّة أو معالجات مكثّفة لقضايا اجتماعيّة أو ثقافيّة . مع تطوّر الصحافة وتوفّر خريجي الكلّيات المتخصّصة بتدريسها، صارت الصحيفة أو المجلّة أكثر جاذبيّة وغدت بذاتها شكلاً من أشكال العمل الفنّيّ، وازدادت موادّها رشاقة وأناقة وخفّة ظلّ وقرباً من الظواهر الملموسة، أمّا العمق الفكريّ وجلال الدراسة والبحث والشموليّة في معالجة الموضوعات الاجتماعيّة والفلسفيّة فقد وجدتْ حضورها في المجلّات المتخصّصة بالأدب أو الفن التشكيليّ أو الفلسفة أو العمارة أو السينما أو المسرح، ومنها مجلاّت تصدرها الجامعات ومؤسسات البحوث وبعض الوزارات.
ومن الطبيعيّ أن يكون قرّاء المجلات المتخصّصة أقلّ بكثير من قرّاء الصحف والمجلات العامّة التي أصبحت محتوياتها أقرب إلى المنوّعات الثقافيّة والسياسيّة، ولا ضرر في ذلك، فالقراءة مستويات ومجالات، ونشر الثقافة العامّة أولى بالاهتمام لأنّه هو جوهر الدور التنويريّ للصحافة. لكنّ هذا يسوقنا إلى التساؤل: إلى أيّ درجة استفادت الصحافة من كونها في يد كبار المفكّرين والأدباء في النصف الأوّل من القرن العشرين وما الذي خسرته من انفصالها عنهم في زمننا؟ وهل خسرت فعلاً ؟ كان المفكّرون والأدباء هم الموجّهين للمؤسسة الصحفيّة، والمشرفين على النشر فيها، فجاءت الصحف والمجلات أكثر انفتاحاً، وأقلّ تشدّداً، واتّسمت معظم موادّها بالعمق، ولكنّ هذه الصفات الإيجابيّة لم تأتِ فقط من رؤؤس الأدباء والمفكّرين، بل من طبيعة مرحلة النهوض الذي شمل مختلف النواحي والمسارات، ومن المهمّة التنويريّة التي ألقتها الحياة على عاتق الصحافة والمفكّرين والأدباء في تلك المرحلة. لكنّ الباحث المدقّق في أوضاعنا الراهنة يجد أنّ القضايا والمهمّات التي طرحت في مجتمعاتنا العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين ما تزال هي هي، لأنّها لم تحلّ، بل إنّ الناظر بعمق في واقعنا يجد تراجعاً في الكثير من الجوانب، ومنها دور المفكرين والأدباء في تكوين وعي الأفراد والجماعات. فهل يدفعنا هذا إلى القول إنّ إسهام الأدباء والمفكرين في نشر الوعي وتكوين الرأي العامّ باتجاهاته المختلفة قد تراجع بسبب تراجع علاقتهم بالصحافة؟ وإذا كانت الصحافة العامّة تكرّس معظم صفحاتها للإعلام السياسيّ والمعالجات السياسيّة وتكرّس حيزاً محدوداً للمعالجات الفكريّة العميقة ولنظريات الأدب والفنّ والسياسة، فهل نستنتح أنّها تسهم في نشر الثقافة “الخفيفة”، وتعزّز الثقافة العامّة بمستوياتها الأوّليّة على حساب الثقافة “الثقيلة” والعميقة؟ وهل يحتمل زمننا وجود منابر إعلامية ورقية تجمع بين الثقافتين المذكورتين؟ وهل يمكن استعادة كبار المفكرين والأدباء إلى أحضان الصحافة في زمن أصبحت فيه دراسة وتخصّصاً؟ أو أنّ التباعد سيزداد إلى أن نجد فجوة بين الصحافة وأعلام الفكر والثقافة؟ أي إلى أن يجد المفكّرون وكبار المبدعين أنفسَهم محصورين إعلامياً في المنابر المتخصّصة التي يقرؤها المتخصّصون أو طالبو التخصًص، ولا جمهور لها خارج هؤلاء؟
كاتب وباحث من سوريا