تقليباتُ نظر

ثقافة 2021/04/18
...

  رعـد فاضل
* قرأت مرة لعالم ومعالج نفساني ما معناه أنه كان يعالج مثقفاً مصاباً بتعدد الشخصيات من بينها شخصيتا وحش وامرأة، وليعيد للمصاب شخصيته الحقيقية الأصلية قبل هذه التعددية، كان عليه أن يدفع المصاب إلى تصفية كل تلك الشخصيات الوافدة، فانتهىت به هذه التصفية إلى اكتشاف أن المصاب كان يجاريه في العلاج ظاهرياً، وفي الخفاء كان يعمل على تبني شخصية الوحش لا سواها من الشخصيات المسالمة، أي على عكس ما كان يدفع باتجاهه المعالج.
لا تفسير لذلك طبعاً سوى أنّ المصاب كان يفضّل هذه الشخصيّة من دون غيرها لأنّها الأقرب إليه، أو لأنّ هذا الوحش هو الوحيد القادر على تصفية سائر شخصيّاته الواحدة تلو الأخرى، في ظنّ منه بأنّه سيقوم هو نفسُه بتصفية الوحش، لكنّه في النهاية اكتشف على ما يبدو أنّ العالم لا يتطلّب مثقّفاً مسالِماً طيّباً سويّاً بقدر ما يتطلّب منقسِماً بوجوه وألسنة مختلفة عدّة، وفي مقدّمتها هذا الوحش المُهاب كي يعيش المثقّف الذي فيه بسلام.
ما ذكّرني بهذا متابعتي لفيلم بعنوان Split أي اِنقسام، انتاج 2017 تأليف واخراج إم.نايت شيامالان، يؤدي دور المثقّف المركَّب المنقسِم الممثّلُ البارع جيمس مكافوي. نفهم من أحداث الفيلم أنّ هنالك امرأةً كانت تتمتّع بشخصيّات عِدّة، من بينها شخصيّة تكتب بكلتا يديها في آن معاً، كلُّ يد تكتب أشياء تختلف تماماً عن اليد الأخرى أسلوباً ومضموناً، أي كأنّ كلّ يد لشخص آخر، وطبعاً ما من عالِم نفسانيّ إلّا وسيقول لي: ليس في وسعي أمام هذه الحالة أن أُصنّف ذلك ضمن الخوارق بسببٍ من طبيعتي المعرفيّة. كما نفهم أيضاً من سياق أحداث الفيلم أنّ هنالك امرأة أخرى كانت تتمتّع بثلاث شخصيّات، إحداها عمياء تماماً والاثنتان الأخريان مبصرتان، ويؤكّد مؤلّف الفيلم بأنّ هذه المرأة حقيقيّة وموجودة فعلاً. 
* الطفل الذي كان مهمِلاً هو الأكثر نسياناً لطفولته لكنّه لا ينساها تماماً، أو في الأقلّ هو الذي لا يخطر له على بال أن يستدعي شيئاً من صورها حتّى إن كانت تلك التي يميل إليها فقط، لأنّه بسبب من ضعف يقظته وقتذاك من الصّعوبة الشديدة عليه بمكانٍ أن يكون قادراً على تذكُّر أيّ شيء منها، وفي المقابل يمكن الاستنتاج بأنّه كان يتمتّع بطفولة غافلة عنه! أعرف بعضاً من هؤلاء ولا أستثني منهم إلّا أولئك الذين يعانون شيئاً من رُهاب الطفولة، أولئك الذين غالباً ما يعلنون صراحةً أنهم عاشوا طفولات قاسية، أو لم يعيشوها أصلاً. الطفولة لا تجزّأ بهذا المعنى؛ إذ مادامت صوراً عدّة مختلفة ومتنوعةً فهي كما قدّمت سابقاً: طفولات، هي ((باقة روائح)) حسب الشّاعر شادورن، ومادامت كذلك فلم لا يستدعي هؤلاء ما هو محبَّبٌ من هذه الطفولات - الصّور- إلى نفوسهم. الطفولة لا تجزّأ إلى: رقيقة وقاسية، أو مريحة ومتعِبة؛ فأنا إلى جانب كثيرين يكادون لا يعدّون ولا يحصون قد عشنا أيضاً القاسي منها والجميل. الطفولة دائماً رقيقة وجميلة بطبيعتها لا شأن لها بكيف تُعاش كونها عالماً قائماً برأسه من المثال والكمال، من الصّفاء، من اللا مسؤوليّة، من الطمأنينة وراحة البال، من أن أفعل ما أشاء وقتما وكيفما أشاء كون ضميري لمّا يتشكّل بعدُ، الطفولة لا علاقة لها بما يُفرض عليها من خارج عالمها هذا فالنّبع لا يُعكَّر إلّا من خارجه، الطِّفليّون دائماً ما يفتح كلٌّ منهم ساقية من طفولته إليه، كي لا يكدِّروا فيض الصّور الطِّفليّة المنسابة من هذه الينابيع. أن لا نتذكّر يعني توقّف استدعاء الطفولة، يعني عيش الحاضر، يعني نضوب الدّفء والتّسليمَ بزمهرير اللا تذكُّر، يعني أننا قبِلنا بأن ننسى كي نطعن في السنّ فعلاً، يعني أننا انقطعنا عن مواصلة العيش في الذّكريات، وكما يقول أحد الفلاسفة ((أنْ ويل لمن لا يتذكّر طفولته، أن يدركها دائماً مثل دم جديد في دمه القديم)) فهو ينتهي وجوداً وذِكْراً: وحيداً، ملحوداً في قبر اللا تذكُّر، في مَهامِه النّسيان، ذلك أنّه دائماً ما ((يُفتتح أمامنا الزّمن القديمُ عندما نحلم بالطّفولة)). من هنا الفلاسفة المتأمِّلون الحالمون هم أصلاً وقبل كلّ شيء أنتولوجيّون يبحثون في ما وراء الوجود والأشياء والطّبيعة بامتياز. هذا الزمن (زمن الطفولة) ما من شكّ هو زمن الأزمان، ذلك أنّه القديم الحاضر الآنَ ومستقبَلاً كلّما استُدعي على الدّوام؛ بالنسبة إلى كلّ رؤيويّ يتمتع بينبوع شخصيّ لا ينضب من الحنين إلى طفولته، وإلى طفولات الوجود والأشياء، لأنّها مصدر الاسترخاء الكامل لكلّ حالم بالراحة. الطفولة مادّة الطمأنينة الأصليّةُ، فأنْ تكون حرّاً يعني، هنا، أن تكون حالماً يتأمّل أنتولوجيّاً طفولته، وكلَّ طفولات الأشياء، يعني أنّك طفل الفلسفة، أو الفيلسوف الحالِم. 
* البياض (الفراغ) على الورقة الذي تتطلّبه الكتابة أحياناً يوفّر للقارئ نوعاً من الخلوة، نوعاً من تدبّر النّص، نوعاً من الاسترجاع والتقاط الأنفاس والتّأمّل.البياض ليس قطعاً في جسد النص وإنّما استرخاء له ولنا نحن قرّاؤه.
* الشكّ، كما فهمنا من ديكارت، يقوم على تقليب النّظر في كلّ شيء قابل للعيادة والفحص؛ شرط أن يتنزّه هذا التّقليب عن كلّ ما هو قبْليّ مستهلك، عندها يمكن الوصول إلى اليقين الذي هو الآخر سيكون قابلاً للشّك.
دائرة الشكّ متراميةُ الأطراف هذه هي من يقوم عليها الوجود من جهة التّواصل في البحث، ذلك أنّ التّسليم بــ(اليقين) نوع من الموت. 
صحيح من الشكّ يأتي اليقين غير أنّه ليظلّ اليقين فعّالاً لابدّ أن يظلّ قابلاً للشّك، إذ إنّ العقل الفلسفيّ شرطُه الأوليّ أن لا يكون وثوقيّاً وإنّما نزّاع دائماً إلى التساؤل، وما كلّ تساؤلٍ في حقيقته إلّا شك.
*ما فلسفة النّوم إلّا أنّ اليقظة هي مَن تنام. أفلاطون، كما أيّ أخلاقيّ 
آخر يكون بإقصائه الشّعر عن 
الفكر قد غلّب المُثُل والأعراف الثابتة على العلاقة العضويّة ما بين الجمال 
والمعرفة.