شعريَّة الانزياح في ديوان «أشجار لاهثة في العراء»

ثقافة 2021/04/18
...

  أ.د.سعد التميمي
 
تقوم شعرية النص الأدبي بشكل عام والشعري بشكل خاص في جانب كبير منه على الانزياح، الذي يقوم على خرق اللغة وانتهاك قوانينها المألوفة لتفعيل الدلالة الشعرية، ويرى کوهين انه يتحقق في مستويات الصوت والصرف والاستبدال (الدلالة) والتركيب، وقد وقف عنده النقاد قديما وحديثا فكان عندهم من أهم آليات التحليل الأسلوبي، واذا كانت الطبيعة بشكل عام والأشجار بشكل خاص قد احتلت حيزا كبيرا في تجربة الشاعر سعد ياسين وأضحت ثيمة مهيمنة بشكل كبير أشار اليها عدد من النقاد، فإن فاعلية هذه الهيمنة تنبثق من خلال توظيف الانزياح مما نتج عنه أنسنة الأشجار لتغدو أكثر فاعلية وتتسم بالمغايرة والتفرد على مستوى المفردة والتركيب، اذ يحول الانزياح التراكيب الى صور شعرية خصبة تزهر وتثمر بدلالات ومعانٍ مؤثرة ومتفاعلة مع الواقع بطريقة شفافة ومحترفة في استعمال اللغة، وهذا ما نجده في ديوان "أشجار لاهثة في العراء". لما كان العنوان عتبة النص ومفتاحه الذي يفتح دلالاته أمام المتلقي فقد حاز على عناية الشعراء فهو الرحم الذي تولد فيه دلالات النص، وقد تضمن الديوان ثماني وأربعين قصيدة، عمد الشاعر في نصف عنواناتها الى الانزياح الذي يقوم تارة على الاستبدال وتارة على التركيب.. فالانزياح هنا أسهم في أنسنة الأشجار وملحقاتها (الغصن، الجذر، العشب)، ففي القصيدة الأولى يختار الشاعر التركيب الأخير منها (عشبة السماء) ليكون عنوانا للقصيدة وهو صورة شعرية يشكلها الانزياح القائم على الاستبدال، اذ استبدل الماء بالعشبة مما اعطى النص فاعلية وتأثيرا واضحا، يقول فيها: (قبل أن يختفي/ تحت سحابة البرق/ أومأ الى الجسور التي/ أحنى ظهرها انتظار عتيق/ وهي تفقد كل يوم/ سلال زهورها البيضاء/ المحدقة في شجرة السماء). ولا يكتفي الشاعر بتوظيف الانزياح في العنوان بل يوظفه في متن القصيدة أيضا ليرسم ملامح جمالياته، فهو يسند (ظهر) الى الجسر ويصف الانتظار بالعتيق ويصف الزهور بالمحدقة دلالة على البحث عن الحرية والحياة، أما إضافة الشجر الى السماء فالانزياح فيها يحيل الى خاتمة القصيدة والعنوان، فالشجرة تحولت بالانزياح الى الماء رمز الحياة ومانح الجمال للزهور، وقد منحت هذه الانزياحات على مستوى العنوان ومتن القصيدة طاقة شعرية عالية. وقد نوَّع ياسين في تقنية الانزياح فتارة يلجأ للاستبدال من خلال الاستعارة والمفارقة والرمز مما دفعه ذلك الى ابتكار رموز خاصة به وهذا ما يتجسد في الأشجار وأقسامها فعلى الرغم من التوظيف الواسع لها في أكثر من خمسة دواوين إلا أن القارئ يلاحظ انه ما زال يبتكر صورا جيدة من خلال تنويع التقنيات، ففضلا عن الاستبدال يوظف التركيب في الانزياح من خلال التقديم والتأخير والحذف والتكرار.
يحدد كروتشـة الأســلوب بالشكـل، ويرى آخـرون أنه كل ما ليس مألـوفا، ويعد الانزياح السبيل لخلق المفارقـة التي بدورهـا تزيد من ديناميـة الجملة في متن القصيدة وتحقق التأثيـر المطلوب في المتلقي، لذلك لم تخل قصائد هذا الديوان من الانزياح بأشكاله المختلفة، اذ يسهم في تشكيل الصور الشعرية التي تستفز المتلقي وتضمن تفاعله، ففي قصيدة (شجرة القصيدة) تتجلى المفارقة في العنوان أولا، اذ يستبدل الشاعر كلمة القصيدة بالشجرة فهو يضيف القصيدة الى نفسها على سبيل المبالغة، وهذا ما يكشفه متن القصيدة الذي يقوم بشكل كبير على الانزياح اذ يقول فيها:                                                                       (هي تلك المتوارية/ وسط كثافة اشجاري/ تلوح ليمن نافذة الروح..) فالضمير (هي) يحيل الى الشجرة لكن هذه القصيدة مختلفة عن قصائد الشاعر تحمل معنى مختلفا ورسالة خاصة قصيدة لا تولد إلا بعد مخاض عسير فهي تتمنع على الشاعر وتتوارى عنه، فكلمة (أشجاري) أراد بها من خلال الانزياح بالاستبدال القصائد،وقد يريد الشاعر بالقصيدة المرأة الملهمة فيشبهها بالغيث الذي يبدد يباب الأرض وينبت الحياة والجمال لتفرح الأرض بأعيادها، وهذا ما تعكسه لوحة العنوان التي كانت عبارة عن شجرة تشكلت من مجموعة من النساء، ومن خلال الانزياح بطرقه المختلفة تأخذ الأشجار التي تتكرر في عنوانات القصائد ومتونها صورا متعدد، فتارة هي المرأة الحبيبة، وتارة هي الحياة، وتارة هي الوحي وغيرها من الدلالات التي نجح الشاعر في تحريرها من سياقها الوضعي، وقد يأتي الانزياح على مستوى الصورة كما هو الحال في قصيدة (شجرة العروج) التي يصور بها حادث انفجار الكرادة، اذ يستبدل التفجير بيوم القيامة رغبة منه في تصوير حجم الفاجعة وهول الانفجار في تناص مع القرآن الكريم، اذ يقول: (عفوك ربي/ قامت قيامتهم/ سيأتونك عند سدرة المنتهى/ ولكن كما رسمتهم النيران ..).