مجنون ليلى.. والجدارة في العشق

ثقافة 2021/04/20
...

  د. نصير جابر 
 
تبدو ظاهرة الثنائيات العشقية العربية التي يحفل بها تاريخنا الأدبي وتتناقل أخبارها وأشعارها وحياة أعلامها كتب الأيام والسير فرصة نادرة جدا وحقيقية للباحث في فضاءات النسوية، إذ تشكل هذه العلاقة الإنسانية  الأزلية الصافية والقلقة والحرجة (العشق) مساحة خصبة معشوشبة واسعة ومترامية الأطراف فيها من غدران الرؤى المختلفة وبراعم التساؤلات الوجودية النضرة ما يغري كل قاطف وممتاح لتتبع مساراتها ومواسمها، إذ تشكل ردود الأفعال المختلفة والحوارات الدائرة بين أقطابها والقصص المنسوجة بسرد آسر عن أبطالها تلك القصص التي تتداخل في بؤرة الحدث أو التي تتمحور حوله ملوّحة ومؤشرة للحدث الرئيس (العشق) تشكل (وثيقة) ناطقة تنقل بصورة مباشرة وغير مباشرة هواجس العصر الذي أنتجها وكونها.  
فالتاريخ الحقيقي والمختلق لهذه الثنائيات يرتبط عادة بمزاج العصر وميوله وطبيعته الاجتماعية والسياسية والمعرفية، وما يزيد من أهمية هذه الثنائيات التي نحن بصددها أنها تركت نتاجا قوليا مهما يمكن الرجوع إليه وسبر أغواره بحثا عما يقصده كل باحث، وهذا النتاج هو من خلّدها فمن المؤكد أن هناك ثنائيات عشقية أخرى ربما تكون عواطفها أكثر حرارة وقصصها أكثر وجعا ودرامية ولكنها ذابت في نهر النسيان لأنّ رموزها خارج الفن والأرشفة. ولعل من أشهر هذه الثنائيات العشقية التي ماتزال حاضرة: (مجنون ليلى) (قيس لبنى) و(كثير عزة)(عروة وعفراء) (جميل بثينة) (ابن زيدون وولادة)، وكل الرجال هنا شعراء غزل من طراز رفيع لا يرقى شك ولاريب في وجودهم التاريخي والواقعي لهم أنساب واضحة وأسماء صريحة، ما عدا (قيس ليلى) أومجنون ليلى وهو أشهرهم وأكثرهم فاعلية في الوجدان الرسمي والشعبي حتى أنه – أي المخيال الشعبي-  قد اخترع له قصة أخرى تروى في العديد من مناطق الريف. 
قصة تختلف عما هو شائع ومدوّن وما يهمنا هنا في هذه القراءة غير البريئة نقاط عدة تدور حول هذه الظاهرة الانسانية بحثا عن قمع ذكوري محتمل لعل أول ملامحه هو تقديم اسم العاشق على اسم المعشوقة، ففي كل المصادر هناك اتفاق على ذلك إلا في قصة (ولادة وابن زيدون) فهناك من يقدم اسمها على اسمه، ولعل مردّ ذلك الأمر إلى أنّ أحداث القصة جرت في الأندلس وهي بيئة مختلفة عن البيئة العربية البدوية وكان تأثيرها على كتاب الأندلس وأهل التاريخ ممن نقل أخبارهما كبيرا وعميقا، أو ربما يرجع ذلك الأمر إلى أنها شاعرة لها شعر يروى أي (صوت) مسموع فضلا عن كونها أميرة ذات حسب ونسب أما عشيقها فوزير أقل منها منزلة في التراتبية الاجتماعية.
ومن الملامح الذكورية الأخرى أن المرأة لا صوت لها يضارع صوت الرجل ولا موقفا ثابتا واضحا، وهذا أمر ربما تسوغه الأعراف الاجتماعية البدوية التي ماتزال حاكمة وبقوة تحت أغطية مختلفة على الرغم من أننا في الألفية الثالثة. 
ومن الملامح التي أجدها ذات تشكيل ذكوري متقن أن العاشق (الرجل) يظهر دائما وكأنه أكثر وفاءً وأكثر لوعةً من المرأة العاشقة، وذلك على العكس من الافتراض المنطقي المعروف، فالرواة الرجال أنصفوا الرجل وزادوه وجاهة وحضورا. 
وبالرجوع إلى الثنائية العشقية الأشهر التي أراها تحقق هدفنا في هذه القراءة وأقصد بها (مجنون ليلى) لأن بطلها شخص مشكوك في أمره جدا لا يوجد اتفاق عليه، ولعل من أهم وأشهر من شكّك بوجوده الدكتور طه حسين (1889-1973) وأسباب شكّه يرجعها إلى اختلاف الرواة في اسمه وعدم اتفاقهم حول القصص التي دارت حوله ثم -وهذه الأهم عنده- أنهم لم يتفقوا على وجودة كليّة. وطبعا هذه أسباب واهية جدا ويمكن الرد عليها بسهولة ودقة.
ولكن ما يهمنا هنا لا واقعية وجوده التاريخي وشجرة نسبه بل واقعية ظهوره الفني، فهذا الشخص هو نتاج عقل ووجدان عربي شمولي به كل ما يعتري هذا العقل من أوهام وحقائق، وما ينضح عنه من أخلاق ورؤى وتأملات؛ لذا فهو يحقق رؤيا أنموذجية لهذا الكائن عندما يقع فريسة  للعشق في تلك الأزمنة.
 وما يهمنا أيضا أن تأمل شخوص هذه الواقعة يجعل الناظر فيها مطمئنا تماما إلى أن إمكانية حدوثها في كل الأمم واردة جدا؛ لأن الحب حالة انسانية وعاطفة فياضة لا زمان ولا مكان لها، فأن يصاب رجل بالجنون بسبب عشق أمر اعتيادي جدا لا تكاد كلّ منطقة أو بيئة تخلو منه، فهناك قصص كثيرة معاصرة لا تقل درامية عن قصة 
المجنون.
 فقيس ابن الملوّح بقصته الدرامية الموجعة يبدو لي دائما أكثر واقعية واقناعا من كثير من قصص العشق الأخرى التي لها سند مثبت لأنه عاش تجربة انسانية مريرة، وكان فيها ابن أمين لبيئته ومجتمعه وهو (مجنون) في نظر تلك البيئة لأنه اختار العشق الرومانسي البريء بينما اختارت هي أن تكون (عاقلة) ومنطقية دائما، كما في القصص كلها؛ لأنها مرتبطة بعمر معين وشباب وخصوبة.
أما في الحكاية الشعبية التي سمعتها في الطفولة مرارا وتكرارا عن المجنون تظهر ليلى راعية أغنام تطلب من قيس أن ينتظرها قرب شجرة غضا بعد أن تعطيه خاتمها الفضيّ ذكرى ريثما تعود بعد يوم أو يومين  ولكنها تجد أهلها قد حزموا الأمتعة وشدوا الرحال إلى (برّ) آخر فترافقهم مرغمة وحينما يدور (الحول)-أي بعد سنة- وترجع إلى منزلها القديم تهرع نحو الشجرة التي تركته قربها فتجد الأشواك قد غطت هيكله العظمي بينما غارت أقدامه المتخشبة في الرمل الأبيض الناعم ونما العاقول ما بين أضلاعه فتمد يدها إلى يده بسرعة وحزم لتنتزع خاتمها الفضي.. وتعود راكضة إلى أغنامها.