ما الذي يثير الغضب الأميركي من زيارات وزير الخارجية الصيني لدول الشرق الأوسط؟
آراء
2021/04/20
+A
-A
د. قيس العزاوي
عبرت الإدارة الأميركية عن تذمرها من التحركات الصينية وصبت غضبها على نتائج الجولات، التي قام بها وزير خارجية الصين وانغ يي في نهاية شهر اذار الماضي، لكل من تركيا وايران والسعودية وعمان والبحرين وابرامه عددا من اتفاقات التعاون الهامة مع هذه الدول، وكذلك مع جامعة الدول العربية، فلماذا كل هذا الغضب الأمريكي من العلاقات الصينية مع دول الشرق الأوسط وماذا تخفي هذه النشاطات التي تعدها الولايات المتحدة مريبة؟!
بداية سنتذكر معا بعض المؤشرات التاريخية التي تقدم صورة ما جرى في منطقتنا الشرق اوسطية. منذ قرابة قرن مضى كانت منطقة الشرق الاوسط حكرا على البريطانيين والفرنسيين اقتسموها في اتفاقهم المشؤوم سايكس بيكو، وبعد حين تسللت الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة، عبر نشر „ديمقراطيتها“ التي مثلتها مبادئ نيسلون الأربعة عشر لتستحوذ على صناعة القرار في المنطقة، وها نحن نشهد بدايات الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بعد أن أصبح همها الأول والأخير استمرار قيادتها للعالم والتفرغ لمنافسة غريمتها الصين
الشعبية.
إن أكثر ما أثار حفيظة الادارة الأميركية هو ان وزير الخارجية الصيني وانغ يي بحث، على غرار ما تفعله القوى العظمى، في الدول الخمس التي زارها وبخاصة المملكة العربية السعودية القضايا الكبرى التي تهم المنطقة مثل: الصراع العربي الاسرائيلي، والبرنامج النووي الإيراني، والالتزام بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، والأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، والتنمية الاقتصادية، والتعاون في مجال التلقيح ضد فيروس كورونا، وإعادة الإعمار . وفي الامارات العربية وقع الوزير الصيني اتفاقاً يسمح للشركة الإماراتية „جي 42“ بالبدء محلياً في إنتاج نحو 200 مليون جرعة من اللقاح الصيني „سينوفارم“ المضاد لفيروس كورونا.
وكما يبدو فإن الصين بدأت تتدرب إقليميا ودولياً على مهام إدارة القضايا الكبرى التي تشغل العالم، ولكي لا نذهب بعيداً فسوف نبقى في منطقة الشرق الأوسط ونقيس نتائج جولات وزير الخارجية الصيني وما خلفته من تأثيرات ستراتيجية على المكانة الأميركية دولياً.. وقبل ذلك سنشير الى حقيقتين:
- الأولى النجاح الباهر لدبلوماسية الصين الناعمة، فمنذ ان اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالصين الشعبية بديلاً عن تايوان عام 1971 والصين تمارس دبلوماسيتها الهادئة، وتكلل وجودها في شبكة العلاقات الدولية بمنطق التعاون وليس بمنطق القوة والاغراء كما فعلت الولايات
المتحدة.
- والحقيقة الثانية ان الصين تقدم نفسها على أنها تنتمي لدول الجنوب، وليس لها ماضٍ استعماري وهي شريك يعتمد عليه في تنمية الدول الفقيرة، وقد وزعت مؤخراً جرعات من لقاحها „سينوفارم“ بين 17 دولة في الشرق الأوسط.
أما أهم نتائج جولات الوزير الصيني فيمكننا ايجازها بالتالي :
أولاً : بعد ان نجحت الولايات المتحدة بإفشال اتفاقية إطار التعاون الاقتصادي بين العراق والصين التي وقعت في بكين بتاريخ 19/ 9/ 2019، لمدة عشرين عاماً بقيمة تقديرية 450 مليار دولار وتتضمن مبادلة عائدات النفط بتنفيذ مشاريع البنى التحتية، كبناء المدارس والمستشفيات والطرق والكهرباء والصرف الصحي. ولكن الولايات المتحدة فشلت في وقف الامتداد الصيني لدول الشرق الأوسط ، فالسياسة الأميركية دفعت طهران الى أحضان بكين. حيث وقع وزير الخارجية الصيني اثناء زيارته لطهران مؤخراً على „خطة التعاون الصيني الايراني الشامل“ وهي خارطة طريق للتعاون الثنائي في مجالات الأمن والاقتصاد والتبادل الثقافي، كما انها اتفاقية تعاون اقتصادي وستراتيجي مدتها
25 عاما .
ثانياً: ان اكثر ما شغل بال الستراتيجيين الغربيين هو ما تضمنته بعض مضامين الاتفاقية المكونة من 18 صفحة التي نشرت بعضها صحيفة „نيويورك تايمز“ مذكرة أن إيران والصين صاغتا بهدوء شراكة اقتصادية وأمنية شاملة. تتضمن الاتفاقية مقترحات صينية لإرساء بنى تحتية لشبكة اتصالات بتقنية الجيل الخامس، وتطوير التعاون الاستخباراتي
والعسكري.
ثالثاً: على الرغم من التكذيب الرسمي الإيراني لما نقلته مجلة „بتروليوم إيكونيميست“ من أن بكين ستقوم بشييد قاعدة عسكرية في جزيرة كيش الواقعة في الخليج العربي، فإن هذه التسريبات تبدو مقلقة لدول المنطقة .
رابعاً: نجحت الصين في مساعيها الشرق أوسطية اذ جرى ربط ايران بشبكة المصالح الصينية من خلال الاتفاقية الستراتيجية سالفة الذكر، ومن خلال مبادرة „الحزام والطريق“ وجاءت زيارة وزير الخارجية الصيني الى تركيا لكي تربط المصالح التركية بطريق الحرير، حيث تعول الصين على هذه المبادرة التي ترمي إلى إرساء روابط برية وبحرية لشبكة مصالح تشمل أكثر من 70 دولة تضخ فيها استثمارات صينية هائلة لتطوير البنى التحتية وتعزيز العلاقات التجارية الصينية مع دول العالم، وذلك من خلال تأسيسها لطريقين: طريق بري مكون من مد سكك الحديد وتشييد الطرق عبر دول آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى الدول الإفريقية والأوروبية عبر بحر الصين والمحيط الهندي، وتبلغ كلفة المبادرة الإجمالية حوالى 1000 مليار دولار، وهو ما يغري تركيا التي أشاد مسؤوليها بطريق
الحرير .
خامسا: التعامل الصيني مع التناقضات الإقليمية، فالوزير الصيني زار عواصم دول متعارضة ومختلفة مثل ايران والسعودية وتركيا، وتعامل بحذر مع طبيعة سياساتها الاقليمية بكثير من البرجماتية، مفضلاً عدم الخوض بأوضاعها المحلية وشؤونها السياسية ومستخدماً لغة المصالح والتعاون، وهو المنطق المقبول في السياسات الدولية .
سادساً: تكللت الجهود الصينية العربية بتوقيع مبادرة التعاون بين الصين والأمانة العامة لجامعة الدول العربية في مجال امن البيانات، الأمر الذي جعل الدول العربية اول منطقة في العالم تقوم بتعزيز الحوكمة الرقمية العالمية، وتكون أنموذجا يحتذى للدول النامية لكونها تدفع نحو بناء فضاء سيبراني سلمي آمن ومنفتح
وتعاوني.
ولكن تبقى المشكلة الأساسية ليست كما تبدو عليه العلاقات الصينية الشرق اوسطية ولكن بما تصوره الباحثين وصناع القرار الأميركيين وقدروه لمكانة بلدهم على الساحة الدولية. وربما يمكننا ان نلخص كل ما جرى بتقدير احد خبراء معهد واشنطن الذي يساهم بصناعة القرار في أميركا وهو ايلاري پاپا الذي نجح بتصوير الانطباع العام المتداول لدى الادارة الأميركية للتحركات الصينية بقوله „ان الصين تهدد بشكل تراكمي بتقويض مصالح الولايات المتحدة في دول منطقة الشرق الأوسط!! وان هذه الجولات التي قام بها الوزير الصيني تهدف إلى تصوير بكين كقوة عظمى مسؤولة تتفهم القضايا المحلية الرئيسية. وهذا باختصار شديد هو جوهر الصراع التنافسي على قيادة العالم انطلاقا من الشرق
الأوسط!.