قراءة في نصِّين قصصيين (بولستر) و(رغوة.. وسُلّم.. وفتاتان)

ثقافة 2021/04/26
...

  د. نضال السلمان
 
يتيح الأدب النسوي للمرأة ارتياد مناطقَ التحرر والانطلاق إلى عوالم أوسع لم تكن متاحة سابقاً، بعيدا عن العالم المتخم بالهيمنة الذكورية والعادات المجتمعية الداعمة له، فهو يهتم بمعرفة عوالم المرأة وموضوعاتها ضمن إطار عالمها الخاص بأسلوب أُنثوي يمنحها التفرّد والخصوصية بعيدا عن انتهاج الأُسلوب العدائي ضد الرجل، فضلا عن إثبات ذاتها جنبا الى جنب معه.
تمنحنا النصوص الأُنثوية بتعدد أجناسها وتنوع موضوعاتها فرصاً لوضوح الأدب النسوي وإرساء شكله وحل إشكالياته المتعددة الناتجة عن قلة النصوص الأنثوية المكتوبة بأقلام النساء، فضلا عن غياب النقد الذي يشكل الدعامة الأساس للعملية الابداعية التي  توجهها نحو المسار الأصح، وفي ظل احتفائنا بالإبداع النسوي ودعمه، لاسيما الاقلام الشبابية المبدعة، نسلط الضوء على القاصة (مآب عامر) التي نشرت قصتيها في الملحق الثقافي لجريدة (الصباح)، وقد جذب انتباهي فيهما تأكيدها وجهة النظر الأُنثوية والاهتمام بقضايا المرأة الذي يعزز طرائق وعي المرأة والنهوض بوضعها السلبي، وسنحلل القصتين بحسب تاريخ صدورهما لمعرفة مدى تطور القصة ونضجها لديها؛ التي استطاعت فيها أن تلتقط إحدى قضايا النسوية في مرحلة الصبا عند المرأة، منبهة إلى أنَّ المرأة تعيش الاضطهاد في وقت مبكر من حياتها، فضلا عن الصراعات التي تكابدها في ظل ذكورية المجتمع، كل ذلك قدمته الكاتبة في قصتها القصيرة عبر حديثها عن ثلاث طالباتِ في رحلة مدرسية، ابتدأت أحداث القصة وصراعها عندما وقفْنَ في طابور الانتظار لحين مجيء دورهنَّ في صعود اللعبة وما تكلل هذا الانتظار من ضغوطات نفسية من العنصر الذكوري عاشتها الفتيات بثقل شاق. 
حمل عنوان القصة (بولستر) بعدا دلاليا رمزيا، فجاء منسجما مع متنها السردي، فقماش (البولستر) نوع يتسم بسمكه المتراص النسيج الذي لا يسمح للهواء باختراقه، وقد جاء توظيفه كناية عن العوائق التي يفرضها المجتمع الذكوري على النساء بحسب وجهة نظر القاصة التي قدمتها من خلال الراوي محدود العلم بضمير الغائب، واهتمت القاصة بسرد التفصيلات المرتبطة بالأمكنة.
 جاءت الشخصيات السردية من غير أسماء تميزها؛ لجعلها شخصيات تحمل سمة العمومية في التعبير عن النساء، وعرضت الشخصيات الأُنثوية بشكل سلبي، إذ لم تكن لهنَّ ردة فعل إيجابية حيال المضايقات الذكورية لهنّ، بل اكتفين بالصمت والخوف وعدم المواجهة، لكن الحدث الذي راهنت عليه الكاتبة لحظة صعود الفتيات اللعبة وشعورهن بالتحرر والانطلاق بعيدا عن كل الضغوطات التي مورست بحقهنَّ، لاسيما مشهد تعلق حجاب إحدى الشخصيات"...  بين أقفال المقعد، حركت القصيرة يديها محاولة تحريره حتى سحب من على رأسها، أرادت اللحاق به والامساك به، لكنه انسل من بين أصابعها، أضحكها منظره وهو يطير بعيدا، ابتسمت للهواء وهو يلاعب خصلات شعرها، أما الأُخرى فقد اكتفت بأرجحة قدميها العاريتين مستمتعة بالهواء المار بين أصابعها،الثالثة أغمضت عينيها 
مرعوبة" . 
جاء الزمن في القصة تراتبياً متسلسلا من غير توظيف للتقنيات التي تشكل المفارقات الزمنية الحاملة لتقنيتي تسريع السرد وتبطيئه، ودورها الفاعل في تكسير نمطية القص ورتابته الباعثة على الملل، ولا ننسى اتكاء الكاتبة على الزمن النفسي في سرد القصص، إذ جاء محملاً بما تنوء به الشخصيات الأنثوية من ثقل الواقع؛ فالوقت "يمر ثقيلاً عليهن بينما ينمو خوفهن، بقي أقل من عشرين دقيقة على تحرك باص المدرسة، لكن الطابور لا يريد أن ينتهي" .
 جسد المكان في القصة تنوعا دلاليا، وجاء محركا أساسا في الاحداث وتفعيلها؛فعلى الرغم من قصر القصة ومحدودية مساحتها إلا أن الكاتبة لم تغفل ذكره، بل اهتمت به لتتجلى فكرتها ووجهة نظرها في سياق توظيف المكان الأليف والمكان المعادي، والعنصر الأول الذي اختارته الكاتبة جاء متنوعا ينبض بالحياة والحركة وجسدته لعبة (الديسكفري) التي منحت الطالبات متنفسا كبيرا للمرح والتصرف بطبيعية وراحة، إذ"بادرن بإمساك ايادي بعض واستمر صراخهن وضحكهن" .
 جاء المكان المعادي في القصة متمثلا (بالطابور)؛ الذي اصطفت فيه الفتيات لحين وصول دورهنَّ في اللعبة، وصياغة المكان بهذا الشكل المعادي كان بسبب هيمنة العنصر الذكوري عليه في سياق تضييق الخناق على المرأة وسلب حريتها؛ لذا نجد الوصف السردي يحول المكان الواسع الى سجن ضيق كما في قولها: "السياج المعدني العالي مصبوغ بدهان أخضر غامق، هيكله يشبه قضبان سجن يحاصرهن هو أيضا من كلا الطرفين، يبدآن بالالتصاق في ارتباك كلما زاد عدد المصطفين" .
 في قصة (رغوة.. وسُلّم.. وفتاتان) نلحظ تطورا ملموسا في أُسلوب القاصة على صعيد اللغة الشعرية وتوظيفها في المستهل السردي الذي تضافر فيه عنصرا الزمان والمكان بالشكل الذي صعَّد من وتيرة الحدث بقولها: "الظلام يزداد كثافة كأنه عباءة سوداء حالكة يهبط بتمهل من كل زاوية.."، فتشبيه الظلام الذي هبط بتمهل كالعباءة السوداء يشير إلى استتابه وهيمنته، إذ لا يمكن للفتاتين الاستحمام من دون ظلام حالك يستر جسديهما. 
 استطاعت القاصة أن تتلقى المكان تلقيا تأثريا ما جعلها تتماهى معه وكأننا أمام تجربة عاشتها بكل تفاصيلها، إذ جسدت فيه معاناة الفتاتين وعيشهما في ظل الفقر والحرمان الذي سلبهما أبسط حقوقهما في الحصول على الخصوصية المتمثلة بالمكان الذي تتفردان فيه للاستحمام؛ لذلك نجد الفتاتين تتخذان من الزمن المتصل بالليل (الظلام المستتب) الذي احتضن الحدث الذي وقع في القبو(المكان) وسيلة لستر جسديهما من أعين المتلصصين أثناء الاستحمام؛ فالخصوصية معدومة في ظل عمارة سكنية يطل بعضها على الآخر مع غياب وسائل الراحة.
أما الزمن فقد ظل تراتبيا لا تطور فيه، وجاء الحدث متأرجحاً بين الرغوة والسلّم مكان الاستحمام للفتاتين، وجاءت علاقة الشخصية بالمكان علاقة يشوبها القلق والخوف من لدن الشخصيتين، بسبب انتفاء خصوصية المكان (الحمام) وحساسيته؛ لذا أتت القاصة بالمكان منفتحا لا تحده الحدود التي يحتاجها الانسان في عمل هذه الخصوصية.
 نأتي إلى سيمياء الغلاف التي جاءت في القصتين مشيرةً الى صورة ثلاث فتيات جميلات نابضات بالحياة ويتضح تضافرها مع متن القصة وأحداثها المتصلة بالمرأة في مرحلة الصبا،ويعد هذا التوظيف بداية واثقة تتسم بالوعي جسدت فيه القاصة معاناة المرأة في المرحلة التي عاشتها؛ لذا جاءت القصص مقنعة للمتلقي ومؤثرة فيه؛ بسبب تماهي القاصة معها وحرارة التجربة فيها، وحدد هذا الاتجاه مسار القاصة واهتمامها بقضايا المرأة بدراية في ظل عادات اجتماعية أبوية متوارثة، فضلا عن هيمنة الفقر الذي جاء مكملا لحلقة اضطهاد المرأة، يتضح ذلك أثناء استحمامهما وسط كل المخاوف المحيطة بهما أثناء تبادلهما "استعمال طاسة بلاستيكية زرقاء، يسكبن الماء البارد فتنتعش روحيهما، الهواء يداعب قطرات الماء المتسللة إلى داخل ثيابهما.. سكبت احدهما قدرا قليلا من الماء، عصرت فوقه قارورة الشامبو.. حركتها ببطء وبشكل دائري لتحفز الرغوة على التكاثف، سكبت جزءاً من المزيج على رأس الأخرى والباقي على رأسها هي، تحسستا شعريهما وداعبتا كثافة الرغوة الناعمة حوله،توقفتا فجأة مع تكاثف الرغوة البيضاء.. وانتشار عطر الشامبو في أرجاء البهو.. تحمستا فجأة لقوة الماء..."؛ فعلى الرغم من سوء المكان الذي تعيشه الفتاتان والروائح الكريهة المنبعثة من مجاري الصرف إلّا أنّ الشخصيات لم تكن سلبية بل كانت متفائلة، إذ سعت الأنثى فيها نحو خلق عالم تعويضي تتجاوز فيه مرارة الواقع بأبسط الاشياء المتوافرة لديها، فضلا عن أنَّ قصص مآب تؤكد اجتماعية الشخصيات النسوية، فلم توظف القاصة شخصية محورية واحدة تدور في قصصها، بل جعلت البطولة جماعية، وهذا يحتسب للقاصة.