بحر أسمر، قمر مضيء

ثقافة 2021/04/26
...

 ناجح المعموري 
تذكرت وأنا أقرأ رواية حسن البحّار "بحر أزرق.. قمر أبيض"، رواية المبدع الكبير حنا مينا "الشراع والعاصفة"، على الرغم من وجود تباين المكونات البنائية للسرد وتنوعات الوحدات وسيروراتها حتى تبدت عملا ملحميًا، والمشترك بين الاثنين الوظيفة التي وجدت بينهما. ورواية البحار ازدحمت بالسرد التزويقي بالاستهلال!، وظل مبثوثا في العمل، ويبدو بأن البحار مولع كثيرا بالسرد الذي اعتدنا عليه منذ بداياتنا، لكنه استطاع الإفلات من الافراط باللغة ذات الإيقاع الانشائي، والتوصيفات المنغمرة بروح الشباب وطاقة الحبّ والذوبان بالعشق.
وأعتقد بأن البحار مقتدر على التقاط الجو العام، وهو في سنغافورا والتعرف عليها مصطحبًا أنطونيو، متطلعًا على الميناء المزدحم بكل ما يجعل من الغرباء، حضورًا قادرًا على العيش وسط الجمال الساحر، الذي هيمن عليه وهو يلتقط جوهرة الميناء عندما ارتاد الكازينو التي تعمل فيها روستوريتا "لن أنسى ريتا أبدًا، امرأة من طراز آخر أكثر مما أتصور، لطيفة خالصة اللطف، تتوغل في القلب على مهل، تملكه، لا أشبع من النظر اليها، ولا التمعن في تموجات سمار قوامها في ثوبها الأبيض الذي يوحي بتفسيرات عديدة حين تنشغل في زحمة الأيام"ص6.
هيمنت عليه "ريتا"، وانجذب اليها ولم يكن هو ولهًا به نوع من التكسب والفوز بعلاقة، بل هو متأتٍ من دهشة وانبهار حتى تحول مجنونًا بها ومولعا، وألقى أمامها بكل ما يملك من إشارات لم تكفِ واحدة منها لإيصال رسالته اليها، وقد أدركت ما تنطوي عليه، "كنت أهتز من الداخل أمام عينيها المتألقتين، يحركني لهاث السؤال: ما سر هذا الترحاب؟"ص8.
لم يعد قادرًا على مقاومة المكان المزدحم بالشباب والضجيج، وما تهيم به الأجساد من ليونة ومرونة وهي تكتظ مع بعضها وتحسّ بالآخر وهجًا ودفئًا.
تشبع بـ"ريتا" وتسللت إلى قلبه وقادت وهي تدرك ببطء ودقة بما فعلته لأنها "من أجمل نساء العالم فقط في ابتسامتها كانت تثير فضاء الأحلام، مشيتها مثل عطر وموسيقى تروح وتجيء كلما احتاجت إليها إحدى عاملاتها، كانت تملك المكان! ربما عليّ القول لم أفاجأ كثيرًا عندما قالت بطريقتها الخاصة متسائلة: - أنتَ عربي، - نعم، ثم زدت ارتباكًا أتمنى بقاءها –انما تعرفين ذلك من أنطونيو.
ضحكت حتى بان بياض أسنانها، قالت: نعم، أجل كلها عندي سواء.. لم تغب "ريتا" عن نظري فرضت نفسها بقوة الابتهاج على اهتمامي"ص12.
حكايات الحبّ مستمرة، وليست متوقفة، أو معطلة، والانبهار بـ ريتا استعاد قصة حب ماكرة تذكرها مفتونًا بها وما حصل بين عمته محاولة إنقاذه من انبهار له علاقة بجارته "لولو"، وعاش تجربة التضاد مع ابنة عمه وعلى الرغم من جمالها وكأنه مخلوق لفتاة من اندنيسيا.
"ريتا" معشوقته التي تدير كازينو "يونغ تو" محطته التي لا وجود لأفضل منها، وغير قادر على مغادرتها إلى مكان آخر وهو في اندونيسا، مثل هذه العلاقة مع المكان تتكون له علاقات واسعة مع رواده، وتتعزز وتنمو وتتكرس مع الفتيات أكثر من الاخر، فتيات لهن مهارات في الصيد وإقامة علاقات مؤقتة في أحيان كثيرة، لكن "ريتا" بجمالها ومهاراتها دنت منه كثيرًا وعرف العاشق مكشوفات الأسئلة التي استمع لها. "-كم عمرك. 
– أربعة وعشرون –متزوج؟ - لا. – هل تعرفت على فتاة؟، فكرت بالأمر مليًّا بعدها قلت: نعم. عدلت قامتها باهتزاز مباغت، انتصبت مثل رمح، تضع باطن يدها على خصرها الذي كان يهتز هو الاخر على رنين صوتها" ص25.
إنما يحط البحار كزوغ عينيه مع الفتيات اللاتي ينزرعن على الممرات وحافات الشواطئ، لكن صديقه "أنطونيو" أخذه معه على الدراجة وانطلقا معا، ولأنه لا يعرف إلى أين؟ سأله فقال له: إلى حيث اللذة.
ولابد من متاعب ومخاطر عند التفكير بالجسد المانح للذة وهطول مطر غزير، اختصارًا للذكورة المتوترة بفحولتها.. حتى تعطل الدراجة نوع من الاشغال النفسي، ودوي الرعد ووهج البرق تعبير عن الصراع الذي أحس به البحار وتوتر به الجسد.
نجح القاص حسن البحار برسم حدود مدينة دوماي العزيزة مع أنطونيو وريتا، مدينة متعايشة بكل تنوعاتها الثقافية ومجموعاتها العرقية واللغوية والدينية المختلفة تنتشر متفرقة عبر العديد من جزر البلاد. 
اللقاء بينهما يمنحهما متعة تقربهما في الملامسة والمجاورة "كنت أمام ريتا أشم برائحتها التي أدمنتها في عناق كان للآخر ضالته الطويلة" التي تنتهي بطبع روج شفتيها الأحمر على خدي من قبلة كانت فيها متعة تمنيتها في مكان آخر".
لا يستطيع القارئ الدقيق والفاحص للسرديات في هذه الرواية التي تقشرت من لغة الانشاء وحازت الشعرية وترميزات واضحة وحضر المجاز، والقاص حسن البحار ذكي ولديه مهارة وحضور ذاكرات وقدرة عالية على توظيف المكان، الموانئ، البحار، العواصف، المخاطر، التي هيمنت عليها الرواية السيرية الكاشفة عن عشق وابتعاد وبسبب الوظيفة في البحر، لذا لم يجد رمزية دالة على عمق الثنائية بينه وبين ريتا للتعبير عن العشق والهيام لذا عبر بدقة ومهارة عن الازمة التي يعيشها لحظة استذكار ريتا، وكم من الأيام ستمر عليه حتى يلتقي بها، لذا اعتمد اختصار ما يعيش من متاعب الهيام وصعوبة البعاد ويلتقط أزمات البحر والعواصف المهددة التي تدخل السفينة، وما عليها بالإنذار. وتكرر مثل هذه الرمزية أكثر من مرة، وما يؤكد ذلك ما حصل بين حسن وبين القيادة التي رفضت الموافقة على إجازة له حتى حان وصول البديل، وسفره معتمدًا على النقل الجوي، لأنه اتخذ قرارًا للقاء الملكة ويحوز من جسدها متعا كثيرة، ليست مثل التي داهمته مرات عديدة، لم تكن "ريتا" المانحة... استقبلته الأم الكبرى منحنية الظهر وطفل ريتا، وهي التي ستأخذ العمر كله ويعيش معها عاشقًا، وسيظل كذلك وهو يحلم بعينيه وهما تلاحقان بطنها، حاملة منه، ما هو ممكن جدا بعد انتصار الحبّ وثقافة الهجنة.