الحرب الصامتة: إسرائيل تستنزف ايران وأميركا تبتز الآخرين

آراء 2021/04/26
...

 د. قيس العزاوي 
اعتادت مراكز التفكير الغربية على استخدام لغة إعلامية «مناسبة» لمواقفها السياسية والعسكرية، فتقول مثلا في وصف الغارة الاميركية على دير الزور في سوريا «إنها غارة دفاعية»، وتقول عن حرب الناقلات المحتدمة بين ايران وإسرائيل انها «حرب تحت السيطرة» أو انها «أعمال عسكرية غير تصعيدية». وهذه مواقف تدل على قبول ضمني وتشجيع على ارتكاب مثل هذا النوع من الحروب الصامتة، فهل ينم ذلك عن ستراتيجية غربية بديلة او جديدة تكون «مناسبة» لمصالح القوى الكبرى؟
 
  تقادمت بشكل ملحوظ الصراعات المبنية على استعراض القوة، وباتت أغلب الحروب الطاحنة تجري على مسرح العمليات بصمت مريب، وقد عرفت منطقتنا العربية الإسلامية في تاريخها المديد أنواع شتى من الحروب مثل: الصليبية والتبشيرية والاستعمارية والاستيطانية والاقتصادية والثقافية، الى جانب أنواع أخرى مستجدة مثل الحروب السيبرانية وضحاياها خزائن المعلومات وأدوات التحكم عن بعد في إدارة أنشطة الحياة المدنية والعسكرية كافة، كما عرفت الحروب الصامتة التي تجري وقائعها من دون الإعلان الصريح عن تبنيها. 
    ولمواجهة هذه التحديات الجديدة لجأت اعدادا متزايدة من دول العالم، منذ أكثر من عقدين من الزمان، الى تشكيل الجيوش السيبرانية، وسلحتها بالمعرفة النظرية وبطرق ووسائل إدارة الحروب الالكترونية. وتعتمد عمليات الدفاع والهجوم السيبراني على استخدام الطاقة الكهرومغناطيسية للتحكم في مجال المعلومات عبر الأنظمة الشبكية والبنى التحتية المرتبطة بها.
  ومن الملاحظ أن القوى الإقليمية والدولية المتصارعة لبسط نفوذها، بدأت تفضل الانخراط بالحروب الصامتة لتُجنب نفسها الدخول في حروب عسكرية معلنة ومباشرة، ولكي تتجنب أيضاً اية آثار قانونية عليها، وعلى الدول التي تكون مسرحاً لعملياتها.
 يضع بعض الخبراء الحروب الصامتة ضمن حروب الهيمنة، ويعتبرها بمثابة حرب باردة جديدة بين قوتين متصارعتين، ويرى ان هذا الصراع يندرج في ميدان صراع العقول والأجهزة الأمنية لفرض الارادات السياسية، داخل مسرح العمليات. وربما تكون ابرز مشاهد الحروب الصامتة ومراميها تجري اليوم ما بين ايران وإسرائيل ومن صورها :
- أولاً: حرب الناقلات الصامتة: إن حرب ناقلات النفط التي بدأت عام 1982 بين العراق وايران تحولت في السنوات الاخيرة الى حرب الناقلات بين ايران وإسرائيل، ومن جراء ذلك تعرضت سفن شحن عديدة لعمليات هجوم من الطرفين، ما عرض أمن الشحن الدولي لمخاطر كبيرة. ففي تشرين الثاني 2019، كشفت إيران عن أن ثلاثاً من ناقلاتها („السعادة 1“، „حلم“، و „سابيتي“) تعرضت لهجمات قبالة الساحل السعودي على البحر الأحمر من قوى بحرية اسرائيلية، وفي 25 شباط، هاجم الإيرانيون ناقلة السيارات الإسرائيلية „أم في هيليوس راي“ أثناء عبورها خليج عُمان، وفي بداية شهر نيسان هاجمت وحدة الكوماندوز „فلوتيلا- 13“ التابعة للبحرية الإسرائيلية سفينة الشحن الإيرانية المعدّلة „سافيز“، فقام الإيرانيون برد عسكري مباشر حيث هاجموا في 13 نيسان، السفينة الإسرائيلية „هايبريون راي“ بالقرب من ميناء الفجيرة التي وقد شوهدت تهزّها مجموعة من الانفجارات.
- ثانياً: حرب تحت السيطرة: يرى فرزين نديمي الخبير الاميركي في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران أن ما يجري ليس سوى حرب ضروس ولكنها كما يصفها „حرب الظل المنخفضة الحدة الدائرة بين إيران وإسرائيل“ التي تدفع الجانبين إلى إبقاء هجماتهما البحرية الانتقامية تحت السيطرة.“ ويضيف بشكل يقيني „إن الدولتين تحرصان على احتواء هجماتهما حتى الآن، ويصف وقائع حرب الناقلات بأنها“اعمال عسكرية غير تصعيدية“، بمعنى الإبقاء على النزاع البحري بين الطرفين عند مستوى يصفه فرزين „منخفض الكثافة في المنطقة الرمادية“ بدرجة أدنى من عتبة الأعمال العدائية المعلنة، حيث يسعى كلا الجانبين إلى تجنب التصعيد الذي قد يعطّل ممرات الشحن والاقتصادات الخاصة بها. اما ماثيو ليفيت مدير برنامج راينهارد للاستخبارات في معهد واشنطن فيرى ان الهجمات الانتقامية التي تبادلتها إسرائيل وإيران ضد مصالح الشحن الخاصة بكلٍّ منهما، تبدو صراعاً بحرياً في «المنطقة الرمادية».
- ثالثاً : طرفا النزاع متفوقان : يعترف الخبيران نديمي وليفيت بمقدرة الطرفين الإيراني والإسرائيلي على المواجهة ويحسبان ان كلا البلدين لديهما „قدرات وخبرات حربية بحرية مميزة“ حسب تعبيرهما، لذلك يبدو من غير المرجح أن يقبل أي منهما بأقل من التفوق البحري. واذا زادت وتيرة هجماتهما فمن المتوقع ان تتحول الى حرب مفتوحة، وهو ما تخشاه أميركا وإسرائيل وتبعد ما امكنها الأنظار عن الحرب السيبرانية، التي كادت ان تدخل المنطقة بحرب تدميرية، فعلى اثر الهجوم السيبراني الإيراني على منشأة المياه الإسرائيلية وصف رئيس المنظمة السيبرانية الاسرائيلية يغآل أونا، الهجوم الإيراني بأنه ذو إمكانية تدميرية، ووصف الكاتب الإسرائيلي وني بن مناحيم أن إسرائيل وإيران تخوضان سراً حرباً سيبرانية ضد بعضهما، ويشير تقرير „مركز القدس للشؤون العامة والدولة“ الى تزايد حدة الحرب السيبرانية بين إسرائيل وإيران خلال الشهور المقبلة. ويوضح أن „جميع التقديرات السائدة في تل أبيب ترجح محاولة طهران شن هجمات سيبرانية كبرى ضد منشآت حيوية إسرائيلية، لاسيما شركات المياه والكهرباء والمرافق المدنية، بالتزامن مع الجهود السياسية والدبلوماسية الإسرائيلية ضد الاتفاق النووي“.
- رابعاً : ستراتيجية إخفاء الاستنزاف: إن الدارس المتمعن لتحليلات الستراتيجيين الأميركيين وحلفائهم من الغربيين سيجد دون مشقة ان هناك أمورا تجري خلف اوصاف „حرب الظل منخفضة الحدة“ و“حرب تحت السيطرة“ و“ نزاع منخفض الكثافة في المنطقة الرمادية“. فمن الواضح ان هناك دفعا متعمدا باتجاه استمرار الصراع قائماً بحده الأدنى، وبخاصة في „المنطقة الرمادية“! لكونه صراعا يستنفد الموارد ويبقى „تحت السيطرة“.
  مما سبق يتضح لنا ان“وراء الأكمة ما ورائها“ فالادارة الاميركية الجديدة تسير على نهج سابقتها في قضية أولوية أمن إسرائيل، وهي حريصة، في الوقت نفسه، على استمرار نفوذها في الشرق الأوسط والاستفادة القصوى من صراعات دول المنطقة دون التفريط بمواقعها ومصالحها.. لذلك فقد وجدت ان استمرار تصاعد حدة الصراع الإيراني الإسرائيلي يحمل مخاطر أمنية عظمى لإسرائيل ولمصالحها. صحيح أن القدرات التكنولوجية والالكترونية والعسكرية التي تمتلكها تل أبيب تفوق نظيرتها الإيرانية، ولكن لدى إيران قدرات جيدة للغاية، ولها قدرة تدميرية وإن اندلاع حرب بينها وبين إسرائيل لا يهدد وجودها ولكنه يهدد بالقطع وجود إسرائيل. لذلك تسعى الولايات المتحدة بكل امكانياتها لابقاء الصراع الإيراني الإسرائيلي بحده الأدنى وتحت السيطرة الى ان تجد حلاً للاتفاق النووي مع ايران ولاسرائيل الاستمرار باستنزاف القوة الإيرانية وللولايات المتحدة ابتزاز الدول العربية!.