زهير كاظم عبود
الاختلاف في المواقف سمة من سمات البشر، وضمن التمسك بالموقف المختلف يكون أحد الأطراف يجانب الصواب، وثمة أخطاء يرتكبها الإنسان، ويحتاج كل منا الى التسامح للتعبير عن مشاعرنا الإنسانية وحاجتنا الماسة للشعور النبيل والإصلاح، ويحتاج منا موقف التسامح الى جرأة وشجاعة وإخماد لمشاعر الغضب، حينها لن نخسر بعضنا، ونمنح الآخر فرصة التفكير مجددا والعودة الى الموقف الصحيح، العودة عن الخطأ موقف شجاع آخر.
جميعنا نعترف بالتسامح طريقا للإصلاح وسيادة المشاعر النبيلة ونبذ الكراهية والحقد.
خلفت لنا الفترة الماضية من حياتنا كعراقيين تراكما مضاعفا من مشاعر الحقد والكراهية والظلم، علاج تلك الفترات لا يمكن أن يكون دواؤه خارج الجسد العراقي، لذلك علينا جميعا أن نتمعن للخسارة الكبيرة التي عمت حياتنا وأوضاعنا الاجتماعية، واسهمت في بعثرتنا وتشتتنا، وأن نكون واعين لمعرفة علاج تلك التراكمات من الأخطاء والخطايا، فالتخطي واغماض العيون وتأجيل المواقف لا يجدي نفعا ولا يحل مشكلتنا، فنحن جميعا بحاجة ماسة لأن نتخذ موقفا شجاعا في التسامح، حتى يمكن أن نبدأ حياتنا من جديد دون تحميلها خطايا وأخطاء الماضي
البغيض.
لا يمكن أن يحل التسامح من دون قناعة وإيمان بالنتائج الايجابية، التي يمكن أن يحققها فعل التسامح بيننا، قناعة بأن هذه الخطوات ستحقق التقارب بين المتباعدين والمختلفين، تزيل العقبات التي تقف حائلا دون أن نعود لأيامنا العراقية الزاهية، التي تنتشر المحبة بين بيوتها وأهلها، من خلال الثقة بأننا نخطو خطوات التسامح واثقين من أنفسنا بأننا ندوس على بعض من جراحنا، ونتنازل عن جزء أو جميع ما ترتب لنا من حقوق، وان نتخلى عن المطالبة باستمرار بتجريم مرتكب الفعل الجرمي الذي لا يصل لمستوى الجناية، والتضحية تعني ان تقدم قبولا لاضرار شخصية تحققت تقع ضمن قواعد العدالة في ساحة التقاضي، لم تتقادم او تسقط بالرغم من مضى زمن عليها.
التسامح يعني الجود في اللغة ويأتي من السماح، والسمح الكريم المعطاء، وسمح لي فلان يعني وافق لي على شيء اي أعطاني، كما يقول ابن منظور في لسان العرب بأن التسامح تعني التيسير والتساهل، وهو يشعر الإنسان بالزهو والاقتدار وهو يتنازل للآخر ويعفو ويتسامح معه، كما يعني تأثيرا بالغ الأهمية في انجاح مشروع المصالحة الوطنية إن كانت هناك جدية لاحياء هذا المشروع، وإذ تتشكل فكرة التسامح على أساس الاشتراك الجمعي في طي صفحة من الصفحات، التي تخللتها حالات الإقصاء وتكميم الأفواه والظلم والتهميش بما لا يصل الى درجة الجرائم الجنائية، التي يتوجب أن
يطولها القانون، إذ يعتقد البعض أن فكرة التسامح ستكون سدا إمام الإجراءات القانونية بحق من ارتكب جناية ينبغي محاسبته عليها، القضاء هو الفاصل في ما تم ارتكابه من أفعال، كما تنبع الفكرة أيضا من إرادة الفرقاء الذين يرتضون بالتنازل لبعضهم البعض عن بعض ما تراه جهة منهم على أنه حق، قيمة التسامح تكمن في فلسفة حقوق الإنسان وشرعيتها وتستمد أيضاً ركائز لها في الفكر الإنساني، فالتنازل لا يصب في مصلحة غير المقابل، انما لمصلحة الجميع، وحين يجد كل طرف إن الحق إلى جانبه، وانه يمتلك المشروعية، فإن الأمر يدفع باتجاه حصول تصادم طبيعي في الاعتقاد، ينتهي الأمر إلى إظهار مغلوبين وغالبين، مهزومين ومنتصرين وخاسرين ورابحين، وهذا الاعتقاد يولد نتائج سلبية ويخلق عوائق وحواجز
عالية.
والتسامح ايضا سمة من سمات السلام الأهلي، وردا على الغضب والانفعال والعنف، ولا يتم فرضه بقانون ولا تلزمه التعليمات، إنما ينبع من القلب ومن التصرفات الناتجة عن سيادة الثقافة الإنسانية والحرص على البدء بمرحلة جديدة، خالية من الضغينة وشهوة الانتقام والثأر والسعي للعقوبة المنفذة من دون حكم قضائي، ومن ثمَّ فإن من الاولويات الجدية تطبيق مبدأ التسامح في أن يجعل الإنسان من نفسه المطبق الحقيقي لمبادئ المسامحة، إضافة إلى التمسك عمليا بأي فعل يجعله انعكاسا ونبراسا لتطبيق تلك
المبادئ.
ليس المطلوب منا أن نمارس التسامح مثلما مارسه الأنبياء، لكنه مطلوب منا بقدر ما نحمل من قيم ونتمسك بمعاني الإنسانية التي تتعارض وتتقاطع مع مفهوم الانتقام والحقد والثأر والانفعال، ومن أجل أن نسهم في توطيد السلم المجتمعي ونوفر مساحة للحياة الحرة والكريمة لكل العراقيين، وان نتعود ونتدرب على أن نتسامح بيننا، وان نتمسك بأن هناك فرصة لكل من يخطئ، وأن نعرف أيضا أن هناك حدودا للتسامح، ومن يتخطى هذه الحدود لا يظلم إلا نفسه، لكننا نخاطب الواعي والمخلص حتى يمنح المخطئ فرصة للعودة الى حياتنا، وحتى نرسم معا مستقبلا منيرا لمستقبل أولادنا، ووطنا معافى من خطايا الماضي.
لنجعل مستقبلنا جميعا هدفنا الذي نسعى إليه بالمحبة وبالمشاعر الإنسانية وبالموقف الشجاع الذي يجعل العراق لجميع ابنائه غايتنا، والتسامح بيننا ليس انكسارا ولا تنازلا ولا ضعفا، بل العكس من ذلك، ونحن في العراق نحتاج للتسامح أكثر من غيرنا
اليوم.