خضير ميري

ثقافة 2021/05/01
...

حميد المختار 
 

ا يمكن لي في كل مناسبات حياتي أن أنسى وجودات خضير ميري وثوابته التي ظلت تتراكم في لاوعيي، ربما كان طائرا بضوء أصفر وشعلة بيضاء، يضيء الامكنة الفارغة بلا أذرع او عكازات، فقط هو بجنونه الآتي من سنوات مظلمة من حياته يستطيع أن ينير العقول محتفيا بكواسر الوعي، ذات يوم تبادلنا المواقع بين المصحة ومأوى العقول، هو جعل من المصحة بذرة أناه الواعية ومنها بدأ يخطط للهروب الكبير إلى الحرية، بينما كنت آنذاك أحاول الدخول إلى المصحة هربا من الحرب، في تقاطع الطرق كان القاص حامد الموسوي بين هذا وذاك يلوح غضبا للدبابات الأميركية التي امتلأ بها شارع الرشيد، بعد ذلك عثر على حامد الموسوي مقتولا ومرميا في أزقة الميدان بصدغ مثقوب وجسد عار، لكن خضير ميري ببدلته الأنيقة وربطة عنقه التي التفت على ياقة أكبر من مقاس رقبته برز في جميع الأماكن، قد يكون طائرا حرا يتفقد العشب الخائف من العاصفة، هبط خضير من عليائه تاركا كل الخيانات التي تعرض لها في حياته وردمها في هوة سحيقة متذكرا أنه سيبهر المؤسسات الثقافية المصرية، سيكون محاورا مجاورا للضيوف الآتين من عواصم العالم، سيكون لولبا ثقيل الوزن يحمل أوزار الكتب والمعارف، رأيته في القاهرة، احتفى بي وقادني إلى ايتليه القاهرة وهناك قدمني إلى المثقفين المصريين مستعرضا روايتي صحراء نيسابور الصادرة حديثا آنذاك، كتب عني وناقش مضامين قصص وروايات صدرت لي في محافل مختلفة، قال لي ياحميد أنت أخي بالجنون تجمعنا لحمة واحدة، لهذا وقبل ان يموت أخبر الشاعر صفاء سكندر الذي كان معه في المستشفى انه يعتب عليَّ لأنني غبت عنه طويلا، كان يريد أن يراني، وكنت أراه من مكمني البعيد قائلا في نفسي ربما كان طائرا حط على شجرة الحياة بعض الوقت ثم طار إلى الأبدية بلا اشرعة او ثياب او ربطة عنق ولا حتى حقائب، ترك الريح تسوقه إلى بحور ودياجير وأزمنة لم يَرَ مثلها من قبل، ورغم انه يكره العيادات والمستشفيات لكن رحلته الأخيرة قادته إلى موته في غفلة منه، حين أعطاه الطبيب بضع حبيبات كعلاج، وما ان تناولها حتى تردت حالته الصحية وأغمي عليه، هذه الإغماءة قادته إلى سرب مظلم من هذيانات طويلة، حياته منذ بدايات وعيه كانت نوعا من الإشكالوية التي كان يبشر بها، ظل عقله يعمل كطاقم ساخن تقشعر له العقول وتفغر له الأفواه، ما هذا؟، وكيف يمكن لصبي نحيف بجسد ناعم ان يحوي كل هذه الفلسفات والمصطلحات؟، كان كل همه زفرة وحيدة للعقول وتمتمات تقرأها مرايا بيضاء كالثلج، حتى صار يطرز الوجود بعباراته ومشاكساته وكتاباته ومحاضراته وخلواته في كل الأماكن، رحل خضير ميري مبكرا جدا تاركا إرثا سرديا وشعريا وفلسفيا مهما، وكعادتها مؤسساتنا الثقافية نسيته بسرعة، لكن اصدقاءه ظلوا يتذكرونه دائما خصوصا اولئك الذين أصدروا كتاب (غوغ، مسامرات خضير ميري) الذي جمعه وأعده وقدم له الشاعر محمود عواد وهو كتاب شامل وجامع للذي يريد أن يفهم خضير ميري، لأنه وثق لمراحل مهمة من حياة فقيدنا الكبير خضير ميري.