ربطة العنق والواي فاي.. في شعر عمر السّراي

ثقافة 2021/05/01
...

 إياد عبد الودود 
كان لقاء سارا ذلك الذي جمعني بالشاعر عمر عجيل السـراي في الاتحاد المركزي للأدباء والكتاب في بغداد (نيسان 2021) حيث النشاط والفاعلية خارج إطار الواقع المحبط، فلا شيء يوقف النجوم عن التحديق، ولا شيء يمنع الفراشات من التحليق، وأول ما قاله لي عند بدء اللقاء: ((القصيدة لم تقتل أحدا؟!))، هكذا وجدت العافية في عيني عمـر الأديب، الذي تقصدت التحاور معه طويلا؛ لاعتقادي بأنه نواة مهمة رافقت عملية التحول في الذائقة الشعرية، ولاسيما بعد عام 2005 – العام الذي غادر فيه ربطة العنق (النص العمودي) متلفتا- فهو ما زال معتزا بالوحدات الإيقاعية، ويتصرف بها بحرفية واضحة. 
وعلى الرغم من ذلك نجدُهُ يستسلِمُ للعبثيَّةِ التي تخطُّها أنامِلهُ هنا وهناك، حتى أنّ صفحاتِ التواصلِ الاجتماعيّ باتت ملاذًا له، وأصبحَ – عنده - (الواي فاي) نافذة جديدة للتمرّد. 
لقد كانَتْ قراءتي لشعرِ عمر، ولاسيّما في ديوانه: (وجهٌ إلى السّماء .. نافِذةٌ إلى الأرض) مدعاةً لاهتمامي النّقدي الأكاديمي بشِعرِهِ؛ فقد وجدتُهُ عيّنَةً فاعلةً أسـتـشرِفُ له فيها بمستقبَلٍ واعدٍ بعيدا عن العناوين الأخرى، على الرّغم من يَقيني أنّه تأثَّرَ وَتفاعَلَ مع اللغةِ القرآنيّة، وما كتَبَهُ شعراءُ الأمّةِ وَمبدعوها الأفذاذ بطريقةِ خاصّة، وبسَببِ ذلك كثُرَت التعالُقاتُ 
مع القرآنِ والنّصوصِ الشّعريّة 
الأصيلة.
اجتذبَني إبداعُ عمر السّراي في قَصيدة: (أنا نصف موجود) التي يقولُ فيها:
 
خبّأتني ..
فكَسَرْتَ ظلّي .. 
وَرَسَمْتَ شيبَكَ .. فوقَ طِفلي ..
أغرَقْتَ أهدابي ..
بكمّثرى الدّموع ..
وَدسْتَ شَتلي ..
 
يُلاحَظُ أنّ مبنى هذا المطلَعِ الهائلِ (الذي يتألّف من بيتين كُتبا بطريقة السطر الشعري) إيهامًا، فهو قائم على نظامٍ موسيقيّ تقليديٍّ صارم (أظهر التّصريع بالزيادة) استند إلى بحر الكامل المجزوء (المُرَفّل)؛ وظاهرة التّصريع مُغرِقة في القِدَم؛ إذ التزَمَتْ بهِ مُعظمُ قَصائِدِ المُعلّقات، وكذا القصائد الخالدة على مرّ العصور حتى وقتِنا الحالي، فهي ظاهِرَةٌ موسيقيّةٌ يَتوازى فيها عَروض المَطلع (التفعيلة الأخيرة من صدر البيت) مع ضَربِهِ (التفعيلة الأخيرة من عجز البيت)، وهذه القصيدة (أنا نصف موجود) ذات وضوحٍ إيقاعي مُبهِر، وُظّفَ عندَها المجازُ في حدودٍ راسِخَةٍ بعيدًا عن (الإبهام) الذي شاعَ في أيّامِنا هذه؛ وَيَصدقُ ذلك – تمامًا – على قصيدة (إطلالة لنجم بعيد)؛ يقول:
مُتَبَعثرًا.. في الصّمتِ يَغفو..
وَنداهُ أقمارًا تُزَفُّ..
نَثَرَ النّجومَ على شِفاهِ الليلِ.. فَاللألاءُ نَزْفُ
 
واللافتُ هنا في هذين البيتين أنّ توظيف (الرويّ) ذي الامتداد النطقيّ (الفاء) قد حقّقَ جدليّةً بين الشّكلِ والمَضمون، ولاسيّما عندَ (التّدوير) في البيتِ الثاني الذي جَعَلَ البيتَ ذا نَفَسٍ واحِد.
 وَيَسْتَثمِرُ شعر عمر السّراي أساليبَ أصيلةٍ في (الشعرّيّة)، منها مايرتبطُ بالإيقاع؛ بسببِ مظاهرِه الخاصّة في اللغة الإبداعيّة العربيّة، وكذا التعامل مع المجاز في حدودٍ تقبلُها ذائقتُنا الْجَمعيّة؛ يقول:
 
ندرّبُ خيلَ الزّمانِ تَدوسُ علينا//  ونحنُ النَدوسُ عليها بزَهو الخيولْ
فَغضّوا بأبصارِكم ســوفَ نَلتفُّ حولَ العراقِ دروعًا، وَفيهِ نَجـــــــولْ
 
ومن اللقياتِ اللافتة التي أجدُ ضَرورةً في ذِكرِها ما يَقترنُ منها بِالأمكنة التي اجتذبتِ الشاعِرَ وَحَفَلتْ بها قَصائدُهُ، ومن أهمّ هذهِ الأمكِنَةِ: الحيدرخانة والمدرسة المُستنصريّة وشارع أبي نوّاس وشارع المتنبي، فضلًا عن المدنِ الكبرى مثل البَصرَةِ وَبغدادَ وَغيرَهما من الأمكِنَةِ التي مثّلتْ رموزًا وَصورًا ذات طابَعٍ كنائيّ يَرتبطُ بالوطنِ وَرموزه. إنّ المكان يمثّلُ حضورًا نفسيًّا يُظهِرُ المعاني وَ وسائطها بقوّة في التصوير، ويبدو أن ثقافةَ المبدِعِ واهتماماتِهِ وَميلِهِ للدراما والتّشكيل هو السّبب الذي جعلَ الشّعرَ حافلا بذكرِ الأمكنَةِ بهذهِ الطريقَة.
ويُظهر عمرَ السّراي تعاملًا مع التكرار بوصفِهِ واحدًا من العَناصر المُهمّة ولاسيما في قصيدةِ (وصايا العائد) ذات البُعدِ الإيديولوجي، والنمط السّردي المستند إلى راوٍ يقرّبه من نمطيّة (الرّاوي العليم)، وتُغذّيها آليةُ عَمَلِ القِناع PERSONA))؛ بفضاءاتٍ طباعيّةٍ جاذِبَةٍ، تَجعَلُ الشاعرَ واقفًا عندَ عتبةِ ما بَعد الحَداثة وَمؤثّراتِها، وَالحديثُ يطولُ في توظيفِ التّكرارِ عند قصائد عمر السّراي، فالحُضور الذّهني والعَقلي في قصائدِهِ قد تَركَ فيه الشاعرُ عوالمَ إبداعٍ خاصّةٍ أفادَتْ من توظيفِ التّكرار، ولاسيّما في مَواضعِ السّخريَةِ من الفِكرِ الدّينيّ المُتَطَرّفِ أو المُقترِن بالغَباء، فأحيانا يَفيدُ من الْجَدَلِ القائمِ على السّخريَّةِ، كما في قصيدةِ (NOTE) التي تذكّرُنا بنمطِ منَ السّخريةِ ذي بُعدٍ إيديولوجيّ؛ يقول:
 
في لقطةٍ فريدةٍ من نوعِها..    
دَعا القاتِلُ اللهَ..
ليَنصرَهُ على المقتولِ الذي دَعا اللهَ أيضًا..
ليكونَ قاتلًا، يدعو اللهَ لينصرَهُ على المَقتول..
، الذي دعا اللهَ أيضًا..
ليكونَ قاتلًا، يَدعو اللهَ ليَنصرَهُ على المَقتول..
، الذي دعا اللهَ أيضًا..
ليكون قاتلًا، يدعو اللهَ ليَنصرَهُ على المَقتول.
 
إلى آخر النصّ القائِمِ على سُخريةٍ مُرّة... إنّ هذا الفِكر المُتحرّر - فضلًا عن المنجَز الشكلي- الذي أظهرتْهُ هذه العيّنات من شعر عمر السراي، ترتبطُ بتاريخٍ عَريقِ وَتفكيرٍ فَلسفيّ متقدّم حدّثَني عنهُ في هذا اللقاء؛ فمذ كان طفلًا كانَ طموحُهُ الفَضاء، نعم كانَ يحلُم أن يُصبحَ رائِد فضاء، وكانَ سلوكُهُ غريبًا، فوَجَدَ ضالّتَهُ في الخَيالِ وَالتّصوير.. وَالبَحثُ في أجهزَةِ الاتّصالاتِ عن ما كتَبَهُ بمساعدة (الواي فاي)، فهو يهيّئ لإصدارِ ديوانٍ ذي عنوان غريب قد يكون (البقلاوة)؛ كما قال الشاعر 
(على ما أتذكّر) على طريقتِهِ في تفعيل العتَبة النصيّة بطريقةٍ مُبهِرَة، وذات تصميمٍ خاص لا يُريدُ الإعلانَ عنهُ 
الآن. 
إنّ اختيارَ العناوين الداهِشة ملمحٌ أسلوبيٌّ واضحٌ في شعره، فمنذ انطلاقتِهِ كتبَ ديوانًا أسماه (ساعةٌ في زمنٍ واقفٍ عام 1999) قال لي إنّهُ أهمَلَه، ولم يفضّل نشرَه لأسبابٍ فنيّة، أمّا دواوينُهُ أو بَعضُ قصائِدِهِ فقد حَمَلَتْ عناوينَ من هذا النّمَطِ الغَريبِ، منها: طواويسُ الماء..، وديوان: وجهٌ إلى السّماءِ نافذةٌ إلى الأرض، وقصائد: حديثٌ قدسيّ، وَسماؤكِ قَمْحي، وَ شَـفة لا ترى، وبنكهة الحسين، وتفاحة حواء، وقلم ورصاص، ونرجَسَة الوداع، وَصفحتان لي صَفعتان لها، ومَلحمة أنكيدو، وَوَصايا فَضائيّة، وَوَصايا العائِد، وَغيرها كثير. 
 وفي ثنيّات حواري مع الشّاعر انتقَلتُ إلى اهتماماتِهِ الثّقافيّة فَوجَدتُهُ مُحبّا للتراثِ العَربيّ مُنْفَتحًا على ثقافاتِ الغَربيين، يَحترِمُ كلّ أنماطِ النّظُمِ الإبداعيّ؛ فالقصيدة عندَهُ ((مثلَ القدحِ قد تُملَأُ نثرًا، فالشعريّة أوّلًا))، وهو لا يَحترمُ مَن يَتنمّر على المُبتَدِئين، يؤمِنُ بالتعدّديّةِ الفِكريّةِ والْجَماليّةِ، وَيَعتزّ بقدواتهِ من أفذاذِ الأمةِ الشّعراءِ الأعلامِ الذين تشكّلوا في الذاكرَةِ الْجَمعيّة: مثل المتنبي وأبي تمّام والبُحتري والمَعرّي و... الحَديث يَطول؛ وكذا من المُحْدَثين: بدرالسياب وسعدي يوسف ونزار قباني وعريان السيد خلف والبَرَدوني ومحمد الماغوط ومظفّر النوّاب.. وغيرهم، أمّا توجّهه الأكاديمي، فلم يكن عائقًا في توجيهِ إرادتِهِ الحداثيّة المَعجونة بطينِ الجنوب وأصالةِ تُمّوز وبُكائيّاتِ اللاطِماتِ البابليّاتِ، ووجدتُهُ يُؤمِنُ بالحُزْنِ بِوَصْفِهِ قيمةً نبيلًةً لا يُحَقّقُها الفَرَح، وقد اجتذَبَهُ قولُ أبي العَلاء المَعرّي: 
 
إنَّ حُزنًا في ساعةِ الـموت، أضعا//  فُسـرورٍ في سـاعةِ المـيلادِ 
 
وكنتُ قد سألتُهُ في هذا اللقاء عن حضورِهِ اللامع في المَحفلِ الثقافيّ العراقيّ والعربيّ، وتفاعلِهِ مع الوَسَط الثقافيّ، فوَجدتُهُ مُحبًّا للحياة مؤمِنًا بأنَّ العراقيّ ((آدم الشعر))، وقال: اجتذبتْني كتاباتُ الدكتور عناد غزوان وتنظيراتُ فاضل ثامر والدكتور حسـن ناظم وغيرُهُم، فضلًا عن أفكارِ الغَربيين أمثالَ تيري إيغلتِن، و رولان بارت و جان كوهن ورُبّما الكثير غيرهم، أمّا بخصوصِ علاقتِهِ بالجمهور فقالَ: ((إنني أحترم الجمهور بكلّ فئاتِه، وبخاصّة الأطفال، الذين قد أعرضُ عليهم بعضَ أعمالي الشعريّةِ أو الفنيّة الأخرى، ولاسيّما الرسم..))، أمّا المرأة فهي بمنزِلَةِ التاريخ عنده؛ ((فلا تاريخ للشاعر إلا من خلال ما تصنعُهُ النساء))، والحديثُ في ذلك يطول، لكنّني أقول: إنّ شعرَ عمر السّراي ذو هويّة وحضور مهم، ويشكّلُ ظاهرةً متفرّدةً قلّ نظيرُها في زمن الإسفاف، والإبهام، والتعامل الضّبابي مع أدواتِ الشعريّة، فقد ظهرَ بأصالةٍ عربيّةٍ مقتَرِنةٍ بالحضارةِ الإنسانيّةِ منفتِحَةٍ على فلسَفات العصر بطريقةٍ تجعلُني أتوقّع أنّ شعرَهُ سيُحقّق مزيدًا من الإدهاشِ والعَطاء.