منى زعرور
تتصدر أخبار لبنان المأساوية منذ عامين المشهد السياسي العربي مع توالي الأزمات، التي لم يسبق أن عايشها هذا البلد في أصعب ظروفه وحروبه. فمنذ تدهور الوضع الاقتصادي اللبناني بشكل مفاجئ في الأشهر الأخيرة من العام 2019 حتى الآن، خسر لبنان أهمية دور قطاعه المصرفي على الصعيد الداخلي والخارجي، والذي كان يشكل حتى حين حاضنة لرؤوس الأموال العربية لميزته في السرية المصرفية، كما تسبب انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، بدوره، في خسارة لبنان لموقعه التاريخي التجاري المهام في الاستيراد والتصدير والذي عُرف دوماً بنقطة الوصل بين الشرق والغرب.
ثم جاءت آخر الأزمات التجارية بتوقف تصريف المنتجات اللبنانية الزراعية إلى المملكة العربية السعودية على أثر منع الأخيرة استيراد هذه المنتجات، في محاولة منها لمنع تهريب المخدرات إلى أراضيها، حسبما أعلنت منصاتها الإعلامية الرسمية، وذلك على خلفية اكتشاف وإحباط عملية تهريب 1.9 مليون حبة كبتاجون في فواكه مشكلة قادمة من بيروت، بالرغم من كل محاولات السلطات اللبنانية للتأكيد على ما أثبتته التحقيقات من قدوم هذه المواد من سوريا وإعادة شحنها في لبنان فقط. هذا الوضع الاقتصادي المتهالك بات يهدد لبنان أكثر فأكثر تبعاً لمتوالية الاخفاق الاقتصادي، والذي لو وصل لمستوياته القصوى لن يكون وليد اللحظة أو الظروف الحالية، إنما نتيجة حتمية لغياب سيادة الدولة على كافة المستويات.
فعلى المستوى السياسي، إن أبسط تعريف للسيادة يتمثل في قدرة الدولة على إصدار الأوامر، مع عدم تلقيها لمثلها من سلطة أخرى. وفي حالة لبنان فإن ممارسة السيادة الفعلية على المستويين الداخلي والدولي غير ممكنة ولعدة أسباب كانت وما زالت منذ قيام هذه الدولة وحتى الآن، ما جعل الأبواب مفتوحة دائماً أمام جميع التدخلات الدولية التي عصفت بأمن واقتصاد لبنان في أكثر من مرحلة. وأمام الصرعات الدولية الحالية بين شرق وغرب - وخليجي وفارسي، بما تمثله هذه الصراعات من تنافس اقتصادي يتمركز خلفها، نلحظ بوضوح تام وقوع لبنان بين مطرقة وسندان هذه الدول في سياساتها وتدخلاتها وانعكاس كل ذلك على عدم قدرة لبنان في تشكيل حكومة انقاذ لتدارك ما وصلت إليه الأحوال. وهو ما جاء صراحة في خطاب البطريرك الماروني بشارة الراعي المطالب بثلاثية «الحياد والسيادة والهوية»، رغم عدم تحقق هذه السيادة منذ قيام لبنان.
أما على المستوى الاقتصادي، فتبعية الاقتصاد اللبناني للدول الخارجية، تَترجم عملياً في كون اقتصاد لبنان اقتصاداً ريعياً، استهلاكياً، استيرادياً، بمعنى أنه لا ينتج ما يحتاجه للاستهلاك المحلي، وهذا ما أدى إلى التضخم. وما يجعله خاضعاً لسياسات الأسواق العالمية وتبدل قيمة عملاتها وخاصة الدولار. مع ما ساهم به غياب التخطيط العام من قبل الدولة، والفساد المحمي من النظام الطائفي، الذي يمنع أية محاسبة أو مساءلة، بالدفع إلى حالة الفوضى وعدم التوازن الاقتصادي بين مختلف القطاعات، وانهيار المؤسسات الوطنية.
ارتفاع أسعار السلع الاقتصادية المستوردة بالعملة الأجنبية(الدولار) وتدني قدرة المواطن اللبناني على شرائها، غياب العديد من السلع والشركات العالمية عن لبنان، تدني مداخيل المواطنين اللبنانيين بالليرة اللبنانية مع إعادة تقديرها على سعر صرف الدولار وحتى في «وظائف الدولة» التي كانت يتغنى اللبناني بالوصول إليها»ابن دولة»، والتي كانت تساوي في ما مضى حال وظيفة الدولة في مصر «الميري» والمثل المصري المعروف حينها» إن فاتك الميري تمرّغ في ترابه»، حال لبنان واللبناني اليوم. هذا المواطن اللبناني الذي يعاني من فساد المسؤول وفساد التاجر وغياب القانون يجد نفسه أمام خيارين، إما التأقلم مع الوضع الحالي أو الهجرة مع غياب أية قدرة على قيام ثورة حقيقية وتغيير قريب يُرجى. ملفات ومفاوضات عدة على لبنان اجرائها وانتظارها، من التسويات والمفاوضات الدولية، لاسيما بين السعودية وإيران، غير القريبة في المنظور الراهن. إلى توقيع اتفاق حول ثروته المتنازع عليها من الغاز في البحر، إلى معالجة مسألة استحقاق ديونه الخارجية، إلى معالجة قضايا اللاجئين على أراضيه وعلاقاته الدبلوماسية بسوريا، والأكيد أنه مع تحليل جميع هذه المعطيات أن الشروط التي ستوضع على لبنان والالتزامات التي سيطلب منه تحقيقها، ستكون كبيرة على وطن صغير لتجاوز ربما أكبر مأزق له في تاريخه، وحتى حينه، في الوقت القريب لا تشكيل لحكومة وربما فراغ رئاسي في القادم من الزمن مع استباق في تشكيل حكومة، وتستمر لعبة تضييع الوقت التي ألفها لبنان بين اختيار الرؤساء وانتظار انتهاء صراعات الخارج، وقد يسبق الانهيار الانتظار.
كاتبة لبنانية