محمد الحداد
حانتْ ساعةُ الصفرِ ودقّتْ أجراسُ الرحيل، هدأت العاصفةُ أخيراً وصمتتْ أفواهُ الصناديق الصاخبة بصمتها، انتهت اللعبةُ الديمقراطية إذن وانفضَّ اللاعبون وطويتْ أخطرُ وأغربُ صفحةٍ في الكتابِ الأميركي كلهِ برحيلِ الرجل، الذي كان أكبرَ لعنةٍ شهدتها أميركا على الاطلاق، لعنةٌ ظلتْ لأربعِ سنواتٍ متواصلة تنبضُ بالجنونِ والتهريجِ والفوضى، وهل كان ثمة أخطرُ من أن يُمسكَ مجنونٌ مثلَ ترامب زمامَ قيادة العالم لأربعِ سنواتٍ كاملة ويقود اللعبة الأخطر على ظهرِ هذا الكوكب بشروطهِ التي صَممها على مقاساتِ جنونهِ وطيشهِ ونزقه؟
أظن أن ترامب لم ينمْ ليلتهُ الأخيرة تلك، لأنهُ كان يدركُ أنهُ ما من قوةٍ بوسعها أن تُسقطَ تاجَ المُلك من فوقِ رأسهِ إلا عاصفة الصناديق الصامتة فحسب، تلك العاصفة المهيبة التي لم يُحسنْ الانصاتَ لصوتِ هديرها جيداً، حتى طَوّحتْ بهِ بعيداً وأزاحتهُ من السباقِ الانتخابي وأخرجتهُ من البيتِ الأبيض.
كان درسُ الرحيلِ قاسياً ومؤلماً بلا شك وتكفلَ الزمنُ بتلقينهِ اياه، لكنهُ استوعبَ ذلك الدرس الأغلى بعد فواتِ الأوان، لأن غمامةً من غرورٍ طاووسيٍّ طائش حالتْ بينهُ وبين ماكان ينتظره، أخطأ في الحسابِ ولم يُحسنْ العواقبَ مبكراً فدهسهُ قطارُ الديمقراطية الذي لا يرحمُ أحداً.
لكن ليس بعيداً عن لعبةِ الفوز والخسارة هذهِ هل لي أن أتخيلَ تلك اللحظاتِ الأولى، التي دخلَ فيها بايدن البيتَ البيضاوي لأولِ مرةٍ خلفاً لترامب؟ هل بوسعي أن أستشعرَ تلك الأحاسيس المتناقضة، التي خامرتْ بايدن وأسرته وهم يدخلونَ لأولِ مرةٍ بيتاً سكنهُ ترامب قبلهم لأربعِ سنوات كاملة؟ فثمة في النفسِ فضولٌ سايكولوجي يصارعُ الفضولَ الصحفي ويزاحمهُ لاستكشافِ ذلك
كله.
ابتداءً، أعرفُ تماماً أن مهمة بايدن هذهِ ليست سهلةً أبداً، بل سيلزمهُ الكثير من العملِ الشاق، والمئة يوم التي قضاها بايدن في الحكم لن تُصلحَ كلَّ ذلك الخراب الكبير بلمسةٍ سحريةٍ واحدة، فالإرثُ ثقيلٌ جداً خاصة مع رجلٍ يختلفُ عنهُ في كل شيء، في الأفكار والكاريزما والأمزجة والنوايا وأحلام الخرائط، لكن لا أدري لمَ يُخيلُ لي أن بايدن باشرَ فورَ دخوله البيت الذي سكنهُ ترامب قبلهُ فتحِ جميع الأبواب والنوافذ المغلقة، كي يدخلَ للبيتِ هواءً جديداً، حقاً ما أصعبَ أن يفتحَ المرءُ أبواباً ونوافذ ظلت مغلقةً بوجهِ الجميع لأربعِ سنواتٍ كاملة، بعد ذلك ربما سأراهُ وهو يهرعُ فوراً إلى المكتبِ الرئاسي، ليقرأ بشغفٍ رسالة ترامب لهُ التي لا نعرفُ حتى الآن ماذا كتب لهُ فيها.
سيلي ذلك قطعاً ما هو أهم مما سبقن إذ أفترضُ أنهُ يتوجبُ على بايدن أن يزيحَ عن كاهلِ البيت غبارَ رجلٍ راحل ويمسحَ ما علقَ بهِ من كلِّ آثر للجنون، ولي أن أتخيلَ هنا صدمة بايدن بأكوامٍ من الفوضى والجنونِ والأخطاءِ التي خلّفها وراءهُ ساكنُ البيتِ القديم، لذا يتوجبُ عليهِ أن يكنسَ البيتَ من تلك الأوساخ المتراكمة، بعد ذلك عليهِ أن يشرعَ فوراً بحزمةِ تغييراتٍ حاسمة لإصلاحِ ما يمكنُ اصلاحه، لمساتٌ تجميليةٌ هنا وطلاءٌ جديدٌ بألوانٍ هادئة هناك لتجميلِ ما لحقَ بالبيتِ من قبحٍ وتشويهٍ ان أرادَ أن يعيدَ لهُ هيبتهُ المفقودة من جديد، بعد ذلك سيتوجبُ عليهِ ما هو أخطر من ذلك كله، أن يُخرجَ من أدراجِ سَلفهِ تلك الملفاتِ الكبرى العالقة، التي أركنتْ من غيرِ حسم وأن يحاولَ ايجاد الحلول والمخارج الآمنة لها والتي تضمنُ الحسمَ والهيبة في الوقتِ ذاته، وسيلزمهُ ابتكار ورشة عمل يضعها في سكةٍ جديدة ويُسيّرها وفقَ خطةٍ متكاملة بجهودٍ جبّارة لاصلاحِ فوضى الخرابِ الكبير.
أرأيتم كم صَعّبَ إذن ساكنُ البيت القديم على الساكنِ الجديد مهمتهُ الخطيرة؟ لكن بايدن يعي بالتأكيد ذلك تماماً، إذ لم يكن ترامب رجلاً تقليدياً بالمرة، رئيسٌ ألصقتْ الغرابةُ بمجيئهِ ورحيلهِ على السواء، فازَ حينما راهنَ كثيرون على خسارته، وخسرَ حينما راهنوا على فوزه، وأظن أنهُ كان أوضحَ لطخةٍ سوداء في سجلِ الجمهوريين، بل وفي سجلِ رؤساء أميركا أجمعهم، لم يكن ترامب يخجلُ أن يُسجَّلَ عليهِ الكثير من السَبق الجنوني وبراءاتِ الاختراع في الارتكاباتِ والأخطاء، ولم يأبهْ لذلكَ قط بل أعجبهُ كثيراً أن ينفردَ بأداءِ هذا الدور الميلودرامي المُركب، وكانت متعتهُ تكتملُ حينما يتعبُ العالمُ في الجري وراءَ تفاصيل جنونه وطيشه وارتكاباته الغريبة، نفخَ ذلك كثيراً من طواويسِ غروره، وأسعدتهُ تلكَ الأصابع التي لم تتعبْ من ملاحقتهِ والاشارة إليهِ طوالَ الوقت، ولم يكن يأبهُ أن يقارنَ الآخرون جنونهُ وفوضويتهُ وغرابتهُ عن سابقيهِ من ساكني البيت الأبيض وهو صاحب مقولة «لستُ كغيري من الرؤساء»، لكن على النقيضِ من وضوحِ صورة ترامب هذهِ وانكشافهِ المبالغ فيه حدَّ الاشاعية المفرطة، وقفَ بايدن بكاريزما مغايرة تماماً كندّ عنيدٍ وهو متسلحُ بكاملِ هدوئهِ وغموضهِ وكان لذلكَ سحرٌ جديد، سحرُ الغموضِ هذا ينفعُ كثيراً في مواقف المنافسة كالتي خاضَها الرجلان، وأظنُّ أن الانكشافَ الفاضحِ هذا كان هو الخصم الحقيقي لترامب نفسه، وهو الذي أطاحَ به أيضاً في الانتخابات الأخيرة أكثر مما فعلَ بايدن.
اليوم أتمَّ بايدن مئة يومٍ رئاسيةٍ كاملة وانتهى عصرُ الجنونِ الشعبوي إلى الأبد، لكن وهو يجلسُ على الكرسي الذي جلسَ عليهِ ترامب أربع سنواتٍ كاملة لن يثأرَ بايدن من سلفهِ بالكلماتِ، كما كان يفعلُ ترامب دائماً مع الجميع، بل سيحاولُ أن يثأرَ منهُ بصمت وعلى طريقتهِ الخاصة، أن يفتحَ الأبوابَ والنوافذَ المغلقة من جديد وأن يعلنَ بداية عصرٍ آخر يتسمُ بالحكمةِ والتعقلِ والاتزانِ، كما وعدَ الجميع بهِ ويحاول جاهداً أن يُسيّرَ ذلك وفقَ ايقاعٍ مغاير ينهلُ من قاموسٍ يختلفُ تماماً عن قاموسِ سلفه، حينها فقط سيكونُ ثأرُ بايدن الصامت هذا من ترامب أشدّ فتكاً وايلاماً من ثأرٍ انفعاليٍّ صاخب.