هيمنة الحضور المقدَّس وبلاغة الحوار الدائم

ثقافة 2021/05/03
...

  د.نصير جابر 
ارتبطت (النجف) المدينة والمكان والتاريخ والتراث مع (ضريح) الإمام علي (عليه السلام) ارتباطا وثيقا ومتينا قلما نجد له مثيلا في تاريخ المدن العريقة والقديمة ذات الصبغة الدينية، فقد أصبح الضريح المقدس بما يمثله من ثقل روحي هائل واشارة دائمة لبث نفحات السمو والسلام والعرفان صباحا ومساء، أصبح علامة المدينة الشاخصة، وأهم معالمها  فهو المهيمن والمتحكّم في خلق فضاءاتها الأخرى وانتاج معانيها الروحية السامية. فحوله تماما عاش الناس وبنيت البيوت والأحياء التي ستكون المدينة دائما وأبدا في عصورها كلّها القديمة والحديثة، وبالقرب منه نشأت مقبرة وادي السلام إحدى أكبر المقابر في العالم والمرشحة بقوة للانضمام إلى قائمة التراث العالمي. فالمدينة والضريح في حوار فعال ودال وبليغ ودائم.
 
ولعل من أهم نتائج هذا الحوار هو نشوء هذه المقبرة الكبيرة، فقرب ضريح الإمام (علي) الشفيع الذي لا تردّ شفاعته يأمن الخائف ويطمئن المضطرب ويأنس الغريب، وهو في أوّل أيام رحلته الأخيرة من دار الدنيا إلى دار الآخرة، وهناك من الأحاديث والمرويات في فضل الدفن في النجف  الكثير الكثير، ولكن ما يهمني هنا هو  التناغم  المدهش  مع  ضريح الإمام  وتحول المكان بفلسفة عميقة مكانا لحياتين لا حياة واحدة، فبركات الضريح التي عمّرت البيوت وأجرت الأرزاق ووفرت لهم الأمن هي ذاتها ستوفر لهم زاد الحياة الأخرى. 
الضريح إذن ليس مجرد صرح جامد من حجر وحديد وخشب وفولاذ بل هو نبع حوار انساني متّصل متجدّد يغذي الأرواح والأفكار والقلوب؛ لذا كانت (الحوزة) العلمية التي نشأت قريبا منه بدروسها الفكرية وجدلها المعرفي الرصين وطلبتها الذين يقصدون النجف من كلّ بقاع الأرض ظلا آخر لهذا الضريح الشريف وحواره المتصل،إذ تُدبج الكتب وتخطّ المخطوطات وتنتشر ثقافة التسامح في أبهى تجلياتها.
لذا كانت هيمنة المكان على المكين هنا في أوضح صورها وأعمق معانيهاإذينمو الفكر ويتغلغل في الأفئدة جيلا بعد جيل، آخذا من سيرة الإمام العطرة النبيلة وناهلا من موارده العذبة التي لا تنضب أبدا.   
ومن هيبة الضريح وقدسيتهأخذتالنجفصفتهاالأهموالأبرزفياللغةفصارتصنوالشرفوالرفعةوالسمو (النجفالأشرف)، وتحولت من مدينة صحراوية إلى حاضرة علمية تتنافس المدن على مدّ الصلات معها وشقّ الطرق إليها وتهفو إليها القلوب من كل حدب وصوب.. زاهرة في المكان والأدب الرفيع.
والضريح بعد ذلك كلّه هو باب من أبواب الدعاء، فعنده تقف سفن الآملين وحوله تطوف عيون القاصدين، وأمامه ترفع الأكف بالتوسل إلى الله سبحانه وتعالى، فلا سلطانولا ملك ولا امبراطور إلّا ووقف متصاغرا ذليلا  تأخذه الهيبة ويصفعه الخشوع وهو في باب علي.
لقد أعطى هذا الضريحالحي أكثر من حياة لهذه المدينة ومنها إلى العراق كلّه مستمدا نسغ نوره من شخصية الإمام علي أحد عظماء الكونالذي قيل فيه ما يملأ المكتبات الكبيرة، ولكنني دائما أقف عند جملة قيلت هي عندي أبلغ ما وصف به الأمام في عصرنا الحديث وهي(الأمام علي صوت العدالة الإنسانية) العنوان الذي اتخذه الكاتب والشاعر اللبناني جورج جرداق (1933-2014) لموسوعته الرائعة عن سيرة الإمام.
وبعد.. فالباحث عن هيمنة المكان وحضوره الفعّال وهو هنا الضريح المقدس للإمام علي عليه السلام لابدّ أن  يبحث في  المدونة الأدبية  شعرا ونثرا منذ ظهور هذا المكان وتسيّده القلوب والعقول، وسيجد ما يدهشه فعلا من وقوف الشعراء والكتاب والرحالة أمامه، ففيه كتب الكتاب وأهل التاريخ الكثير الكثير،إذ وصفوه وصفا دقيقا وتابعوا أطوار البناء وهندسته والأعلام الذين أسهموا في ذلك،كما وصفوا أعداد الزائرينومواسم هذه الزيارات التي تضم عادة مختلف الأعراق التيلا يجمعهما غير حبّ الإمام، ولو أردنا أن نقف أمام من وثّق وكتب عن الضريح لاحتجنا إلى مجلدات كبيرة،أما الرحالة الذين مروا بالنجف فقد أخذ الضريح مكانة متميزة في  رحلاتهم بوصفه المكان الأهم في المدينة،  فضلا عمّا يمثله الإمام علي من مكانة كبيرة في قلوب المسلمين في كلّ بقاع الدنيا؛ لذا كان حرصهم شديدا  على نقل مشاهداتهم بدقّة متناهية. 
أما الشعراء الذين كان الضريح  حاضرا في شعرهم فلا يمكن أيضا عدّهم أو حصرهم، ففي مختلف مراحل التاريخ كانت النجف مقصدهم دائما مهما اختلفت الظروف ومهما تعقدت الأوضاع السياسية،ومن الجدير بالذكر أن الشعراء الذين كتبوا عن الإمام وضريحه كثير منهم لا ينتمي للإسلام،  ففيهم الصابئي والمسيحي وغير ذلك من أهل الديانات والمذاهب الأخرى لأن حضور الإمام في التاريخ كان إنسانيا خالصا؛ لذا تحول من رمز  إسلامي  إلى رمز عالمي.
ومن يتأمل هذا الشعر سيجده صادقا معبّرا حقيقيا لأنّ دوافعه دائما دوافعإنسانية خالصة تتعلق بالمحبّة والانتماء إلى القيم الروحية السامية التي يمثلها الإمام،ولنتأمل هذه الأبيات الشهيرة التي تخاطب الضريح بأعذب المعاني والألفاظ:
 
ياصاحب القبة البيضاء في النجف
 من زارقبرك واستشفى لديك شفي
زوروا أبا الحسـن الهـــــادي لعلكـم
تحظـون بالأجر والإقبـال والزلــف
زوروا لمن تسمع النجوى لديه فمن
 يزره بالقبر ملهوفـــا لديه كفــــي