علي بن أبي طالب اللساني الأزلي.. بلاغة اختصار الزمن

ثقافة 2021/05/03
...

  محمد يونس
اذا كان هناك تاريخ للتدوين قد ساير الثقافة الاسلامية منذ صيرورتها وتواصلها العام والخاص، لكان هناك قطب لا نختلف عليه لتلك الثقافة، وبافتقاد ذلك التدوين فقدنا قيما مهمة، إذ نقر ونشهد بأن القرآن قد وحد اللهجات العربية المتعددة، ولَمَّ شمل تلك اللهجات التي فيها الكثير من الشواذ والدخائل الغريبة، وكذلك الاختلافات المتعددة في صيغ التعبيرات، وكذلك فقدان التنقيط كان ايضا احد الوجوه العصيبة، وما كانت سمة التأطير القرآني في وحدة لغوية بنظام صارم نشهد إلى اليوم أثره، وكان يلزم ذلك ترجمة للمستوى البلاغي واللساني . 
 
وقد شهد القرآن قبيله البشري، وكان علي الأنموذج اللغوي الخلّاق، وكان بطاقة بلاغة جديرة أن يكون أبلغ قرين أو قبيل للقرآن، إذ كانت بعض المفاهيم القرآنية تحتاج دليل ايضاح أو اعادة انتاجها مفسرة بوضوح، وكان اعتزال علي ليكسب طاقة مضافة من الخطاب القرآني، وليس في حدود الحاجة الهابرماسية، بل لدى علي طاقة خلق، فكان القرآن المدوّن بلا نقاط، وتلك هيأحد المظاهر اللغوية الحساسة، فلولا جهود الإمام في اطار التنقيط لكانت لغتنا العربية تشابه أي لغة من اللغات الأخرى، لكن جدارته اللسانية ومعرفته الخلاقة جعلت اللغة العربية ليست فقط تختلف في تلفظ بعض الحروف، بل شكل التنقيط احد اهم قيم اللغة العربية، ويرجع فيها الفضل اليه، إذأوكل الأمر إلى تلميذه أبو الاسود بعد أن رسم له جميع الامور الدالة بوجه تام لا إشكال فيه.
اذا كان أهل المنهج المدرسي يعدون أن سوسير قد بلغ حدود مهمة تنظيرا في المظهر اللساني ومضمونه بحدود قصوى أزليا،سوسير الذي يعد الصيرورة في التفسير المنطقي والبعد النظري، قد اصبح نظريا المثال وماعداه هو درس من دروسه، وفعلا شهد التاريخ الحديث سطوة أبعد من حدود نظرية سوسير،ولا يختلف عليها اثنان، ولن تجد عقلا عربيا فكر بأن لسانيات علي لا قبيل لها ولا نظير، لكن لابد من القول بأن أهل المعرفة الحرة قد اتصلوا كليا بعلي، كرس مختصر لتاريخ اللغة واللسانيات، وكانت هناك مطابقة فطرية وواعية منه للتطورات التاريخية، وحكمة ومعرفة خلاقة أزلية خارج وداخل وحدة الزمن، وقد أسست بلاغة علي منهجا للحكمة البليغة بعد اختصار منظومات فكرية كبرى تلامس الأطر العلمية مباشرة، ليمسك خطابه اللساني بجهتي العلم والمعرفة، ومن يدقق في ثنايا خطابه يجد صحة ذلك.
إن المنطق العقلي يؤكد إلى حد ما لا يمكن الاستعاضة عن تاريخ من التدوين العلمي، لكن نحن قد حرفنا علي من موقعه العلمي المعرفي وبتحييد فطري وعاطفي إلى منطقة الجدل والخلاف والمخاصمة، وبذلك ضاع منا مؤسس علم اللسانيات الأزلي وصاحب البلاغة الفوقية الأجدر، وسلطة خطابه هنا هي نوعية وكونية أيضا، فقوله اللساني البليغ الذي يختصر آفاق علم اللسانيات الرحبة -لولا أن الكلام يعاد لنفد- وفي تفسير موضوعي توصيفي نجد أنه قد اختصر علم اللسانيات بكل مستوياته بجملة واحدة لا غير، وصراحة تلك البلاغة الاستثناء، وقد انفرد بمنهجية بتلك الجملة واضح بعدها الكوني العام والخاص، والذي يتوافق مع أي عصر، ولكن بعد تلك الجملة الفلسفية في مفردة الناقد الداعية للاطلاق التكوينية الصفة، ولكن هنا صفة تدعم مغزى الأخرى وتلك الجملة المتصلة بالتاريخ الطويل هي صيرورة وتتحمل أن تكون سيرورة أيضا.
إذا كان سوسير قمة هرم نظرية علم اللسانيات فإنّ علياً فوقه..فتلك الهالة التي لا يحتوي بلاغتها عصر معين ولا زمن ما، فعليٌّ هو الوحيد الذي جعل أركان البلاغة تنصهر في بوتقة معرفته الخالصة، والتي اختصرت أيضا الزمن والتاريخ، ولذا فإن ما تفرد به خطاب علي هو بلاغته وحكمته الروحية، إذ رسم للبلاغة خططا أولية تجد في كل جملة له ثمة جدارة متناسقة بلاغيا ومختصرة للزمن معرفيا، فهو يرى – البلاغة إفصاح قول من حكمة مستغلقة، وإبانة عن مشكل – وفي تفسير مضامين تلك الجمل لسانيا نجد أنه لابد من تبويبات وخانات، فالإفصاح البلاغي يأخذ مدى واسعا الى حد ما، وقد يتطور بلا هوادة لولا اغلاق الحكمة، والتي تشكل المعادل الموضوعي للمنطق العلمي، والمعرفة الخلاقة في خطاب عليٍّ الذي اختصر الزمن وجرد التاريخ من مقوماته، فهناك جهة ضبط روحية له،إذ لم يجعل الكلام يتيه عن مقاصده البلاغية، مثل تمنيه لو كان يملك رقبة بعير ليمضغ الكلام.
وتلك المسؤولية الموثقة بلاغيا كانت فطرية عنده وجزءا لا ينفصل عن كيانه، والمواقف كثيرة في تاريخه وآفاق حياته الحزينة، وما استطاعت أجدر حالات الاستثناء وفي أصعب المواقف من تضييق الافق عليه، وهو الذي جعله واسعا ورحبا، وسؤال اليهودي لعليٍّ عن اعداد صنفي الطيور فأحاله الى اجابة سريعة دليل على أنه لا يملك غيره قدرة بلاغية تماثلها، وتلك البديهة والاستجابة لعليٍّ هي أقرب لما نجده اليوم من ميزة الكترونية في الانترنت.